قلد ملك النروج وسام الفروسية من الدرجة الأولى للجيولوجي العراقي النروجي الجنسية فاروق القاسم، تقديراً للخدمات التي قدمها لصناعة النفط النروجية. وشغل القاسم منصب مدير إدارة البترول النروجية ما بين 1972 و1990، وهو متقاعد الآن، إلا أنه يخدم في هيئة حكومية تقدم مساعدات فنية واستشارية بترولية لدول العالم الثالث، منها لبنان، من خلال مساعدتها في إعداد القوانين النفطية وتدريب مواطنيها للعمل في القطاع. وأعلن المدير العام لدائرة البترول بيتي نيلاند في المناسبة، عن سعادة الجميع في الدائرة وفخرهم «لأن فاروق كان مديراً محترماً في الدائرة طوال مدة خدمته... فهذه جائزة مدعاة للفخر والاحترام». يذكر أن القاسم اختير مع خبيرين عراقيين آخرين عام 2006 لصياغة قانون النفط العراقي السيء الحظ الذي لم ير النور بعد نحو خمس سنوات من إعداده. وقد سحب فاروق وزميل له توقيعيهما من مسوّدة القانون بعد أن أصبحت المسوّدة ورقة للمساومة بين الساسة العراقيين، بغض النظر عن أهمية هذا القطاع الحيوي للاقتصاد العراقي والخسارة التي تلحق بالبلد نتيجة تأخير تشريعه. اختار فاروق، ابن البصرة وخريج جامعة «امبيريال كولدج» اللندنية، الهجرة من العراق والاستقرار مع زوجته النروجية في بلدها عام 1968، وكان يعمل في شركة «نفط العراق»، إلا أنه اضطر إلى الهجرة لمعالجة ابنه، وعُيّن مباشرة في وزارة الصناعة النروجية، التي كانت بحاجة ماسة في حينه إلى خبراء في القطاع البترولي، حيث كانت الشركات العالمية بدأت استكشاف البترول في بحر الشمال لكن من دون تحقيق اكتشافات مهمة بعد خمس سنوات من العمل. وكان هناك ثلاثة خبراء وفنيان فقط في دائرة البترول في حينه، بينما تشمل مهام الدائرة مسؤوليات جساماً، منها التخطيط واقتراح السياسات لتطوير الصناعة البترولية في القسم النروجي من بحر الشمال، إضافة إلى الإشراف على أعمال شركات النفط الدولية التي تتعاقد معها الحكومة النروجية. وعيّن فاروق في اليوم ذاته ضمن الفريق النروجي للنفط بوظيفة مستشار لتحليل نتائج الاستكشافات في بحر الشمال. ذاع صيت فاروق القاسم عالمياً، وكتبت عنه صحيفة «الفايننشال تايمز» اللندنية مقالاً مطولاً في 29 آب (أغسطس) 2009 بعنوان: «العراقي الذي أنقذ النروج من النفط»، بما معناه أنه سعى مع الفريق الذي عمل معه لتفادي النروج «المرض الهولندي»، إذ يؤدي الحصول على الريع النفطي إلى موجة من التضخم، وإلى وقوع البلد المنتج في «المرض الهولندي» (والذي سمي هكذا بعد اكتشاف الغاز الطبيعي في هولندا وتأثيره السلبي على الاقتصاد، من شيوع التضخم وتفشي الفساد). اقتنع فاروق بعد اطلاعه على النتائج الاستكشافية، أن هناك احتياطات ضخمة في النروج، لكن المسؤولين لم يقتنعوا أولاً بما أخبرهم به، كما أن قوانين البلاد لم تكن جاهزة لاستغلال الريع النفطي المستقبلي. لكن تقاريره لاقت استحساناً عند عدد محدود من زملائه في العمل. وبعد مراجعة وافية لنتائج الاستكشاف، كتب تقريراً للمسؤولين أضاف إليه ملاحظاته. وجاء في صحيفة «الفايننشال تايمس» بهذا الصدد: كان فاروق صوتاً وحيداً، فبعد أن شرح نتائج الاستكشافات، كتب أن النروج نائمة على بحر من النفط، على رغم أنه لم يتم إلى حينه اكتشاف كميات ضخمة من البترول. لكن القضية قضية وقت، والوقت قصير، فقد كان من الضروري أن يهيئ السياسيون البلاد لكي تصبح دولة نفطية (والقصد هنا الاستعداد اقتصادياً واجتماعياً للتعامل مع الثروة البترولية)، لكنهم لم يقوموا بهذه المهمة». وقال للصحيفة: «كنت أذكرهم باستمرار أن سياساتهم كانت خاطئة». حالف الحظ فاروق مرة أخرى، لكن هذه المرة كان الحظ مصحوباً بنتائج باهرة، أدت إلى منحه الصدقية اللازمة في عمله، فقد كان معظم الآبار التي حفرتها الشركات العالمية في بادئ الأمر في القسم النروجي لبحر الشمال جافاً، وبدأت الشركات وقف أعمالها الاستكشافية، لكن شركة «فيليبس بتروليوم» طلبت في صيف عام 1969، بعد الفشل في تحقيق نتائج إيجابية، أن توقف أعمالها أيضاً من دون حفر البئر الأخيرة، التي عليها أن تحفرها كما ينص عقدها مع الحكومة، لكن دائرة النفط الحكومية رفضت طلب الشركة، وقررت إما أن تحفر «فيليبس» البئر الأخيرة أو أن تدفع مبلغاً يعادل قيمة كلفة الحفر. وفي ضوء هذا القرار، ارتأت «فيليبس» أنه أوفر لها أن تحفر، وكانت نتيجة حفر البئر الأخيرة اكتشاف حقل «ايكوفيسك»، أحد أكبر الحقول البحرية في العالم. فتحولت النروج على ضوء هذا الاستكشاف والاكتشافات الكثيرة الأخرى بعده، إلى دولة نفطية كبرى، وتسابقت شركات النفط العالمية للحصول على الامتيازات للعمل في القسم النروجي من بحر الشمال. وصاحب فاروق القاسم هذه الانطلاقة المهمة لقطاع البترول النروجي، بصفته مدير دائرة البترول، اليد اليمنى لوزارة النفط، والجهة التي اعتمدت عليها الوزارة في تطوير القطاع. ومنذ تلك الفترة، أخذ إنتاج النفط النروجي يتراوح ما بين 2 و3 ملايين برميل يومياً. لكن الأهم من ذلك، استطاعت النروج تفادي «المرض الهولندي»، فبدلاً من التضخم وشيوع الفساد، استطاعت أن تصبح مثالاً يقتدى به في دور النفط في التنمية وفي كيفية تأسيس صناعات الخدمات الهندسية والإنشائية المحلية لدعم هذا القطاع بالمكونات المحلية. إن نجاح فاروق القاسم في عمله وتكريمه من قبل ملك النروج، هو نتيجة حسن أخلاقه وتواضعه وعلاقته المهنية والخاصة الجيدة مع زملائه، إضافة إلى عمله الدؤوب لمساعدة الجيل الناشئ وتدريبه على ولوج صناعة النفط. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية.