مع أول صفحات رواية «الغيمة الرصاصية» لعلي الدميني سنكتشف أننا أمام رواية مختلفة لا من جهة التكنيك الفني فقط، بل ومن جهة الروئ والأفكار. نحن أمام رواية تستحق أن يتعب القارئ نفسه من أجلها قليلا، وكلي ثقة بأن هذا القارئ لن يندم مطلقا على الوقت الجميل الذي سيقضيه بصحبة سهل الجبلي وحكاياته التي تغوص إلى أعماق الواقع وتصعد إلى مرتفعات الفنتازيا والخيال. قلت «يتعب القارئ نفسه من أجلها قليلا» وليس هذا لأنها رواية صعبة أو ملغزة وعصية الفهم، ولكن لأنها فقط رواية غير مألوفة! وهذا وحده يكفي القارئ المهتم لكي يتعب قليلا من أجلها. في «الغيمة الرصاصية» نحن أمام ثلاثة نماذج من الشخصيات. شخصيات يفترض أن بطل الرواية سهل الجبلي هو من صنعها في نصه العجيب عزّه (نص داخل نص). الأول يفترض أنه مكشوف، والآخر (عزة) هو النص المموه والمجهول الذي تتمرد شخصياته على واقعها. يقول سهل الجبلي لنفسه: «وقفت أتأمل نص عزة في الذاكرة وأتساءل هل يمكن لواقع أن يشابه نصه أو لنص أن يقترب من واقعه»، لكن شخصيات (عزة) تمردت على واقعها وخرجت من النص تشاغب حياة الكاتب. هكذا نرى عزّة تخرج من النص لتشارك الكاتب منزلة، بل وتنام بينه وبين زوجته، ثم لا تلبث أن تعود لخزانة الكتب «أغلقتُ باب الغرفة بهدوء وتمددت إلى جوار زوجتي، لكن عزة كانت تتسلل من قصتها إلى غرفتنا وتضع جسدها بيننا» هكذا نرى مسعود الهمداني أحد أبطال نص عزة يزور الكاتب في مقر عمله في البنك طالبا منه الموافقة على قرض لكي يسدد منه ديات الذين قتلهم في النص. من هو القاتل هنا؟ مسعود الهمداني بطل النص أم مؤلفه؟ ثم لا يلبث مسعود الهمداني أن يختطف الكاتب ذاهبا به إلى وادي الينابيع حيث دارت أحداث نص عزة هناك يلتقي الكاتب ببقية شخصيات نصه المتمردة عليه، والتي تحاول تشكيل حياة أخرى موازية للنص المكتوب وخارجه عليه. يحدث سهل الجبلي نفسه قائلا: «ضاع برنامج التنظيم، ودفعت الثمن من عمري في الزنزانة الانفرادية، وحين قررت أن أكتب قصة عزة لأصوغ شخصياتها وأحداثها حسب إرادتي اختطفني أبطال النص وأودعوني المغارات». أما النموذج الثاني من شخصيات الغيمة الرصاصية، فيمثله سهل الجبلي مؤلف نص عزة إضافة إلى زوجته وأصدقاءه حيث الحياة الواقعية أو المفترض أنها واقعية. في مغارة وادي الينابيع ندخل مع سهل الجبلي في تبادلية جميلة تتم غالبا من خلال مونولوج داخلي نتنقل من خلاله بين فنتازيا الشخصيات الخارجة من نص الكاتب والتي تعتقله وتحاكمه وبين واقع لا يقل جنونا حيث السجن والمعتقلات والتحقيق، يتم المزج هنا بين اعتقال سهل الجبلي في مغارة وادي الينابيع، وبين «الفلاش باك الخاص باعتقاله سابقا في قضية التنظيم السري. يتبقى أخيرا النموذج الثالث من شخصيات الرواية ويمثله هنا الراوي الحقيقي (علي الدميني) نفسه والذي يفترض أنه يمتلك في النهاية مصير سهل الجبلي، حيث يمكننا أن نسأل أنفسنا هنا وما هو الفرق بين سهل الجبلي نفسه وبين شخصيات قصته المتمردة عليه والتي تشاركه واقعه الفنتازي. وما هي العلاقة بين الراوي نفسه وبين سهل الجبلي حيث يكتب علي الدميني سهل الجبلي ويكتب الجبلي «عزة»، وحيث نرى مشروع الجبلي يسقط مرتين مرة أمام السلطة حيث يتم القبض على أعضاء التنظيم ويضيع الحلم ومرة أمام شخصيات نصه حيث يخاطبه ابن عيدان (أحد شخصيات القصة المفقودة وهو زعيم وادي الينابيع) يقول له ابن عيدان: «علمت مما بلغني من نص عزّة أنك تخالفني الرأي فيما أقوم به، وأنك قد أوهمت أبطال قصتك بأدوار خطرة لتغيير ما ألفناه وقام بحكم العادة كقانون لوادينا، لكنك الآن بيننا معتقل ومرتهن وفي ظني أن مكوثك معنا سيجعلك ترى صواب ما أقوم به في الحفاظ على الضرع والزرع والماء والأهل». يرد عليه سهل الجبلي ولكن في نفسه: «مشاريع تصارع بعضها ولا بأس في ذلك». ليست هذه قراءة من أي نوع في رواية مهمة جدا كالغيمة الرصاصية لكنها مجرد وقفة بسيطة تحت هذه الغيمة؛ فالرواية تستحق بحق قراءات نقدية متمكنة وعميقة لأنها إلى جانب حداثتها التكنيكية فهي تمر على أحداث مهمة ومؤثرة، كغزو العراق للكويت وسقوط الحلم القومي أو العروبي، وتناقش الكثير من الأفكار كالديمقراطية والتعددية والحرية والتشدد بنوعية الديني والسياسي. ولن أضيف جديدا لو تحدثت عن لغة الرواية الجميلة والسهلة والعميقة في آن، وهذا لن يكون غريبا لمن قرأ علي الدميني الشاعر. ولأن جاء ذكر الدميني الشاعر فأنه خطر في بالي وأنا أطالع هذه الرواية بأنها في تكاد تكون رثاءً سردياً للكثير من الأحلام المؤودة! * روائي وقاص سعودي.