لا أثاث سوى فرش مهترئ، وحقائب لم تعد صالحة لحفظ الملابس، وأغطية عفا عليها الزمن، وكلها مكوّمة في ركن، لتبقى الأرضية جرداء تماماً. ففي «العشّة»، وهي خيمة بلاستيكية مطعّمة بالأقمشة والكراتين ومثبتة بأحجار وعصي خشبية، لا شيء يوحي بالاستقرار، ودخولها يتطلب انحناءة، إذا لا يتناسب مدخلها ومرفوعي الرأس، لكن لا مناص من التآلف، حتى مع الرائحة. هنا يعيش المتعارف على تسميتهم في اليمن «الأخدام»، وفي وثائق المنظمات «المهمشين»، لتشكل «عششهم» تجمعاً سكنياً يسمى «محوى»، بعيد من الأحياء السكنية، ما يعمّق عزلة اجتماعية لم تنجح أي حكومة يمنية في كسرها. نهارهم لا يبدأ مع نهارنا، وليلهم يسكن باكراً. فغالبية سكان «المحوى» عاطلون من العمل، نساء ورجالاً، والعاملون منهم ليسوا ملزمين بدوام يومي، وأطفالهم لا يدرسون، فما الداعي إلى الاستيقاظ مع بزوغ الفجر؟ أما من يعمل منهم، فأمامه غالباً ثلاثة خيارات: اسكافي متنقل، عامل نظافة، أو متسول، والمهنة الأخيرة تجيدها النساء والأطفال، لكنها أيضاً لم تعد آمنة. تقول «نبات» من سكان أحد المحاوي في صنعاء: «لا نستطيع أن «نشحت» براحتنا، باص المكافحة يلاحقنا، يحبسوننا ولا نخرج إلا بعد أن يأخذوا حصيلة اليوم». تختصر «نبات»، الأم لثمانية أطفال، حكاية «العشش»، باستثناء أحوال عمال نظافة: «عيشتهم أحسن»، تقول «نبات»، «أحياناً نبيع أثاثنا لنستطيع توفير الأكل». وعلى رغم ذلك تمضي أيام هؤلاء، وأكثرها تميزاً الخميس والجمعة، إذ يخرج الجميع إلى المحال التجارية والمساجد، وتقول جارة «نبات» واسمها «جمعة»: «الخميس والجمعة محددان لنا من زمان»، كما أن المال أوفر يوم الخميس، بسبب صدقات أصحاب المحال التجارية. ولا تختتم طقوس العودة إلى «المحوى» بالأكل والنوم باكراً، كما هي العادة اليومية. تقول جمعة: «إذا أحضر أحدنا مسجلاً صغيراً يشغل كاسيت، ويجتمع الرجال في خيمة والنساء في خيمة أخرى «نتلبّن» (يمضغن اللبان)، وإذا حصلت إحدانا على قليل قات تقاسمناه وخزنّاه وتبادلنا الأحاديث، البنات مع البنات والعجائز مع العجائز». هي الطقوس ذاتها في أعراس «المحوى» أيضاً، مع شيء من «الرفاهية». ففي يوم العرس، يأكلون الوزف (سمك مجفف صغير يباع بأسعار معقولة) والسحاوق (مسحوق الطماطم مع الفلفل الحار) والعصيد (نوع من الخبز اليمني)، والجميع يمضغون القات على حساب أهل العرس الذي يستمر يوماً كاملاً. وتقول راوية، المتزوجة منذ خمس سنوات: «في العرس لا لحم ولا مآدب، ننتقل من خيمة إلى خيمة... لا نقصد صالون المزيّن، بل تأتي واحدة من الجيران تخضّب العروس بالحناء، وأخرى تضع لها الماكياج، نستأجر فستان بخمسة آلاف ريال (23 دولاراً تقريباً)، ونعيده إلى المحل في الليلة ذاتها... ننظم حفلة صغيرة، ندعو البنات وتتجمّع النساء في خيمة والرجال في خيمة، وبعد العِشاء تزف العروس إلى خيمة زوجها». أما الصور فبالهواتف النقالة في أحسن الأحوال. كلفة العرس في «المحوى» زهيدة، لا تتجاوز 200 ألف ريال يمني (نحو 900 دولار)، لكن جمع هذا المبلغ قد يمدّد الخطوبة أكثر من ست سنوات، كما لا يُمنع الرجال من الزواج مرتين وثلاثاً، ما يخلّف مطلّقات صغيرات في السن وأطفالاً كُثراً بلا عائل. هؤلاء الأطفال، إلى جانب «توظيفهم» في التسول، لا يحظون بالتعليم، ناهيك بحقوق أخرى لا يطمحون إليها إذ لا أمل في تحققها. تسوّل بالتناوب سميرة (9 سنوات) تبدأ مهامها «التسولية» في المساء، لكنها في الصباح مسؤولة عن رعاية أشقائها الستة في غياب والدتها، فيما ينام والدها ريثما تعدّ له قاته وغداءه. تقول الطفلة: «أريد أن أتعلّم لكن أبي يرفض، يقول إن عليّ الاهتمام بإخوتي، وأمي تخرج تستعطي من الصباح وحتى الظهر، وبعد عودتها أخرج أنا مع أخي الصغير مبارك، أقول للناس أعطوني ثمن ما أتغدى به لأن أمي تحضر لنا ما يكفي لوجبة الفطور وقات والدي فقط». سميرة أكبر أشقائها، لكن والدها تزوج بأخرى أنجب منها طفلين آخرين، لتعج «عشتهم» بتسعة أطفال أصغرهم ولدت قبل أشهر، وإذا ما احتسب الأطفال المتوفون، تكون والدتها أنجبت ثمانية أطفال وزوجة أبيها ثلاثة. في داخل «العشش»، يولد الأطفال بكثرة ويموتون بكثرة، وتقول الحاجة فاطمة: «المرأة القادرة تحتفل بالمولود الجديد، أما غير القادرة مادياً فتتمدد على الفرش إلى أن تعود عافيتها تخرج لتتسول وتصرف على نفسها وأولادها». تضيف جارتها «نبات»: «بعضهن يجمع المصاريف قبل الولادة، تدخل في جمعية من 300 إلى 500 ريال، وعندما تبلغ الشهر التاسع، تتسلم جمعيتها ويكون عندها ما يكفيها، هذا إذا كان لديها أولاد يعملون عمال نظافة، وإلا فإن زوجها يشتغل وينفق عليها، لكن هذا نادر». ولأنهم يعيشون في عزلة، فالإشاعات عن «الأخدام» قد ترقى إلى «حقائق»، كتلك التي تتحدث عن أكلهم موتاهم أو علاقاتهم اللاأخلاقية بعضهم ببعض، لذا يستغربون حين نسألهم أين يدفنون موتاهم... «وهل نحن غير الناس؟»، تتساءل فاطمة، «نقبر في مقابر الناس!». دورات مياه مبتكرة فاطمة أربعينية تعيش في منزل، في منطقة بعيدة من «المحوى» مع آخرين من أبناء جلدتها، وتلاصق منزلها كتلة منازل أخرى، لكن ذلك لم يمنع وصمهم ب «الأخدام». فاللون أسمر والعمل في البلدية أو التسول، أو تلقيهم ضماناً اجتماعياً كل 3 أشهر (لا يتجاوز 3 آلاف ريال يمني)، كافٍ لوصمهم. تقول: «خادم عن خادم يفرق، نحن لا نعشش ولا نخرج للتسول، نؤجر بيوتاً ونصلي ونصوم ونعرف الله». تنكر المرأة علاقتها بأهل «المحوى»، لكن منزلها الذي تتشاركه وقريبتها وزوجها وآخرين، لا يختلف كثيراً عما تراه في «عشة»، فالمفروشات وحقائب الملابس مركونة قرب الجدار، والرائحة النفاذة غير المحببة تفوح من كل شبر. في منزل فاطمة، لا تتوافر الكهرباء دائماً، لأن صاحب المنزل يصلها عندما يرغب في ذلك، والمياه أيضاً. لكن في منزلها دورة مياه، وهي خدمة غير متاحة في «العشش» التي تبنى أساساً من مخلفات القمامة، ما يضطر ساكنيها الرجال للجوء إلى ما توفره ملحقات المساجد، فيما تتوارى النساء داخل «العشش» لقضاء حاجتهن في علب أو أكياس بلاستيكية، ويطلق على ذلك اسم «حمام سفري». أما بالنسبة إلى الأطفال فالمساحات بين «العشش» متاحة لكل شيء... أما لعبهم فبعجلات السيارات التي يلمّونها من القمامة، ولا تجد في يد طفل لعبة، إلا إذا كانت حجارة أو علبة حديدة فارغة. «العاقل» سمير علي شمسان لا يدعى باسمه في «المحوى»، فالجميع ينادونه «العاقل»، وهي تسمية تطلق على المسؤول عن تسيير أمور «المحوى»، يقول: «قبل أربع سنوات وعدتنا الحكومة بمنازل، وخرجنا من المحوى بعدما عوّضوا علينا ب30 ألف ريال لكل أسرة، وقالوا بعد شهر نتسلم منازلنا فصدّقانهم، لكننا إلى اليوم على حالنا». ما أن تدخل «المحوى»، ستشعر بغربتك وغرابتك في نظرات عيونهم السمراء، خصوصاً إن كانت في يدك كاميرا وقلم ودفتر وآلة تسجيل (والأخيرة مألوفة لمعظمهم)، غير أن توضيحاتك بأنك في مهمة صحافية لن تعفيك من إلحاح النساء والرجال لتسجيل أسمائهم في دفترك مع شرح لحالهم بالطبع، علهم يتلقون معونات من جهة يجهلونها. أما المعلوم، وفق مصادر تاريخية عدة، فهو مصدر مصطلح «أخدام» العائد إلى رجل اسمه نجاح الحبشي، ينتمي إلى بقايا الأحباش الذين غزوا اليمن عام 525، استغل انهيار الدولة الزيادية وكوّن دولة بقيادته سمّاها دولة آل نجاح، ليتولى سدة الحكم في زبيد والسهل التهامي، ويأتي بأبناء قومه الأحباش. اضطهد النجاحيون السكان الأصليين من اليمنيين، فنهبوا الممتلكات واتخذوا العرب من اليمنيين عبيداً بل امتدت أيديهم إلى النساء. فشكّل الأهالي مجموعات مقاومة ضد الدولة النجاحية، بقيادة الثائر علي بن مهدي الحميري الزبيدي الذي جمع اليمنيين من تهامة والمناطق الجبلية. وبعد حرب استمرت 4 سنوات، سقطت دولة النجاحين، ليُحكم عليهم بأن يكونوا خدماً للمجتمع اليمني، كما أجبروا على جعل منازلهم في أطراف المدن والقرى. وأطلق الزبيدي على هؤلاء تسمية «أخدام»، بعد بيعته الثانية.