يحدثنا حسين أمين عن والده المؤرخ التاريخي أحمد أمين كيف أنه كان ينصح أبناءه بألا يسمحوا للأفكار الشائعة للنقاد أو الناس بأن تحد من حريتهم في الحكم، فلا يخشوا أن يخالفوا مفكراً في آرائه، أو أن يعبّروا عن عدم رضائهم عن كاتب مشهور، فاختلاف الفلاسفة في أحكامهم يعطينا نحن المتلقين الحرية الكاملة في أن يكون لنا رأينا الخاص، «فلا تخشوا أن تحكموا على هيجل بالادعاء والسفسطة والغموض- والرأي لا يزال لأحمد أمين مخاطباً أولاده- فكذا هو رأي شوبنهاور فيه، وتولستوي يرى أن شكسبير مؤلف رديء، وأن نيتشه نصف مجنون، فمهما كونتم من رأي سيء في أحد المفكرين، فستجدون له صدى عند مفكر مشهور مثله، وبمرور الوقت سيكون بوسعكم الاستغناء حتى عن هذا التعضيد، والوقوف ولو ضد الناس أجمعين، وهذه هي ميزة القراءة الكثيفة»، مضيفاً أيضاً أن الحكم على الفن إنما هي مسألة ضمير كل شخص على حدا، وليس بوسع ناقد مهما كان شأنه، متى رأى المرء أن عملاً فنياً معيناً يعرقل حياته الروحية أن يثبت له العكس، بل وعلى كل منّا أن يسأل نفسه عقب الفراغ من قراءة عمل أدبي عمّا إذا كان قد صار بفضل قراءة هذا العمل إنساناً أفضل... أو ما إذا كان عزمه قد قوي على أن تكون علاقته بمن حوله أكثر إنسانية ونبلاً، فإن كان جواب القارئ بالإيجاب، فإن الكتاب الذي بين يديه هو عمل فني من الدرجة الأولى. كلمة أخيرة: تعوّد القراءة على فعل حضاري يمثّل الوجهة الأخرى في عملة الإبداع، وهو من أعظم الوسائل للاحتفاظ بشباب الذهن، ومتى زادت حصيلة المرء لمفرداته تمثلت معها الأفكار والاستنتاجات، أما البيت الذي يفخر أهله بمكتبته قبل أثاثه فهو بيت متحضر بوعي، ومن المؤكد أنه سيخرّج نفوساً غذاؤها العقلي سليم، ذلك أن ممارسة القراءة منذ الصغر إنما يضفي على أيامنا قيمة أكبر ويجعلنا أكثر استيعاباً، وكيف لا؟ وهي عادة ترفع صاحبها من الاعتبارات المحلية والضرورات المعيشية إلى قيم أسمى وتأنقات ذهنية لا يحصل عليها من أقنع نفسه بالتخلي عنها وكرهها. يقول طه حسين: «كل فكر يرى الحقيقة من جانب، ويكشف منها عن جزء»، وهذا صحيح، فإذا لم تتح لنفسك الفرصة لتكثيف قراءاتك في شتى المجالات، فكيف تستطيع أن تلمَّ بالموضوع الواحد وتعقد المقارنات وتحيط بجوانبه التي تناولها غيره، ثم تصل إلى نتيجة مع عقلك تؤهلك لتقويم ما قرأت، فمن ثمرات القراءة أنها تحصن المرء نسبياً ضد التأثر سلبياً بما يقرأ، ذلك أن حصيلته الثقافية من شأنها أن تعيينه على غربلة الآراء، فما وافق قناعاته ائتلف معه، وما خالفه اختلف حوله ولكن بمنطق يفسره، أما «الرفض» من دون إبداء أسباب أو شروحات، فهو جهل بيّن، وسيكلف صاحبه أكثر ما يكلف العلم به. وقالوا: «أقرأ في غير موضوع، وأفكر من غير غرور، وأقتنع بغير تعصب» كارليل. [email protected]