تقدِّم الناقدة الأكاديمية المصرية هالة أحمد فؤاد، في كتابها «المثقف بين السلطة والعامة، نموذج القرن الرابع الهجري – ابوحيان التوحيدي» (دار المدى)، لوحةً لإشكالية المثقف في علاقته بالسلطة وبالعامة (الجمهور في لغتنا الراهنة). وإذا تناولنا نموذجَ مثقف عاش في القرن الرابع الهجري في عهد الدولة البويهية (زمن حكم الوزراء العظام، وعلى رأسهم الوزيران الصاحب بن عباد وأبو الفضل بن العميد)، فإن هذه الإشكالية لا تزال تطرح نفسها في عصرنا الراهن وبحدة أكبر من العصور السابقة. وفي مشهد يزخر بالصراعات والتناقضات، نرى صورةَ مثقف العصر الوسيط في جملة ممارساته ومواقعه «محاصراً ومقموعاً في مساحة ضاغطة ومأزومة بين أصحاب السلطان -أو النخبة الحاكمة- من ناحية، وبين العامة -أو الدهماء والرعاع- من ناحية ثانية». هذا المثقف الذي تبحثه الكاتبة هو أبو حيان التوحيدي، الذي تغوص في كتاباته ومروياته عن علاقته بالسلطان والوزراء، لتقدِّم من خلالها صورة عما يعانيه هذا المثقف، الذي وُصف بأنه «مثقف الهامشيين»، تمييزاً له عما دعي بمثقف السلطان. عايش التوحيدي حياة البلاط، وعَرف خفايا السلطة من خلال نزاعه مع الوزراء، وكان -كما ترى الباحثة- شاهداً على مأزق صاحب السلطان ذاته، المحاط بحاشية فاسدة طامعة، لا تسعى إلا من اجل مصالحها وأهدافها، ولو كان الثمن التضحيةَ بالوزير وتقديمه قرباناً لأعدائه. إنها الحاشية التي تحجب الخير عن الوزير، مُفسِدةً ما بينه وبين أهل المعرفة الحقة، من امثال التوحيدي وأقرانه «الذين لا يسعون من اجل مصالحهم الذاتية الضيقة، بل يرمون إلى خدمة الوزيرالطيب الكريم الجدير بالخدمة والمساندة»، على ما تصف الكاتبة دواخل السلطة. وإضافةً الى هذه اللوحة، يحاول السلطان تلبُّس صورة المثقف، فيَظهر عليه نوع من الهوس السلطوي، من خلال إبراز نفسه حائزاً التفوق المعرفي في المجالات الفكرية والبيانية، وتتجلى هذه المظاهر أحياناً من خلال اختلاق صاحب السلطة أحداثاً وهمية حول مناظراته ومحاوراته مع اهل العلم، «مبرزاً تفوقَه المعرفي الساحق الماحق فيها، مما يغذي خُيَلاءه الذاتية الزائفة، ويبلور صورة مضلِّلة له في أعين المحيطين به، خصوصاً النخبة المثقفة». كانت تجربة التوحيدي في علاقته بوزراء الدولة البويهية وبالحاشية المحيطة بالسلطان، علاقةً معقدة مركبة مليئة بالتناقضات، عاش خلالها حالاً من التناقض بين قناعاته وآرائه التي ستكلفه التهميش والاضطهاد، بسبب رفضه التخلي عنها، وبين مماشاة الكذب والمراءاة التي تتطلبها العلاقة مع النخبة الحاكمة ليكسب المثقفُ رضاها. هذه التجربة الصعبة دفعت به الى إطلاق أحكام في السياسة والأخلاق وما يجب ان يكون عليه الحاكم، وكيف على المثقف التصرف، وصولاً الى اعطاء رأي حاد يطاول الطبقات والفئات الاجتماعية السائدة في ذلك العصر. العلاقة المستحيلة دفعت المعاناة أبا حيان إلى اعطاء حكم حول استحالة العلاقة الجيدة بين الطبقات الاجتماعية، بداية من الملوك وحاشيتهم وانتهاء بالعامة والبسطاء، فانعدام قيام هذه العلاقة الجيدة يعود الى صراعات المصالح والتنافس حول المكاسب الدنيوية المادية، من سلطة وسطوة ونفوذ ومال. وإذا كان التوحيدي يصبّ جام غضبه على جميع الطبقات الاجتماعية، فإنه يستثني أهل الورع والدين، الذين تحرروا من صراعات الدنيا ومفاسدها الزائلة، والتزموا التقوى سبيلاً الى الخلاص في الآخرة، وهؤلاء قلة نادرة وسط طغمة غالبة وفاسدة. لكن التوحيدي يستدرك معترفاً بإمكان وجود طبقة ذات صلاحية يراها في «الكتّاب وأهل العلم»، واضعاً شروطاً لتمتعهم بهذه الخصوصية الصالحة، تقوم على ضرورة تحررهم من اهواء الدنيا ومباهجها ومغرياتها، والامتناع عن الارتماء في احضان السلطة الطاغية طمعاً بالمغانم والملذات، ما يعني ان يلوذ هؤلاء بما تفرضه كرامة العلم، وان يتشبهوا بأهل الورع والدين. يسلِّط التوحيدي، وفق ما تكتب الباحثة، سيفَ النقد على النخبة الدينية والثقافية، فيرى فيها أصلَ الجهل وانهيار القيم وشيوع الفساد الاخلاقي والتحلل العقائدي، بل إنه «أدرج هذه النخب في فضاء القطيع المنحط والمتردي، بحيث لم تعد تحتفي بكرامة العلم والدين، بل استخدمت معارفها الراقية لنيل الدنيا ومباهجها، ففسدت آراؤها، وغلبها الكبرياء البغيض، وساقها الهوى، وأسلمت قِيادَها لشهواتها الدنيا، شأنُها في هذا شأن السوقة والدهماء». لكن الهجوم الحاد والصفات اللاإنسانية كانت تلك التي خص بها التوحيدي طبقة العامة، فيصفها بأنها «طبقة العامة الأوباش»، وهي فئة تشمل التجار الصغار وسائر «عموم الشعب»، فهذه الطبقة تتصف لديه بطبيعة لاأخلاقية، فئة منحطة، لا تعرف ديناً ولا ورعاً ولا أخلاقاً، عمادها الغش والخداع والتزييف والكذب والمكر والتحايل والمراوغة والخبث. ويذهب أبعد من ذلك، فيعتبر ان هذه الصفات السيئة هي جزء أصيل من التكوين الطبيعي لهذه الفئة، فهم أشرار وأنذال بالفطرة، ورعاع ليس لديهم ما يتنافسون عليه، لا شيء لديهم يخسرونه، «فهم كالحيوانات يصارع بعضهم بعضاً فقط من اجل اليومي اللحظي المبتذل، او لنقُلْ من اجل محض البقاء في أدنى أشكاله وأحطِّ درجاته». قد يكون هذا الموقف من التوحيدي مستهجَناً بمقياس عصرنا الراهن، فذلك المثقف العقلاني كان يقف الى جانب المثقف المحروم والمهمش، وهو الحال الذي وصل اليه التوحيدي نفسُه آخر ايامه، بعد ان أحرق كتبه رفضاً لما آلت إليه الامور العامة وما اتصل به من ظلم، ولعل هذه الفقرة التي أجاب فيها على رسالة القاضي أبي سهل، الذي عاتبه على حرق كتبه، تمثِّل معاناته أفضل تمثيل، كأن يقول التوحيدي: «وقد اضطررت في أوقات كثيرة الى أكل الخضر في الصحراء، والى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، والى بيع الدين والمروءة، والى تعاطي الرياء». ان موقف التوحيدي من العامة والوصف القاسي والفاضح لهؤلاء البسطاء، تُمْكِن قراءته -من منظور ذلك الزمن- بدرجة الوعي والتطور و «الاستقلالية» لهذا الجمهور، وهي صفات كانت مفقودة، فالعامة يقودها السلطان وهي في خدمته. وقد يكون ما أثار التوحيدي هو استغلال السلطان لهؤلاء العامة وتأليبهم على المثقفين المتمردين على السلطان، بحيث يسهل تجييشهم ضد هذا المثقف عبر نعته بشتى الأوصاف المسيئة، الكافية لانقضاض الجمهور عليه وقتله. يظل كتاب هالة فؤاد عن نموذج المثقف الهامشي الذي مثله التوحيدي، أحد المراجع المهمة لقراءة علاقة المثقف بالسلطة، في جانبيها السلبي والإيجابي، وعلى علاقته بالجمهور في زمن راهن بات الجمهور مختلفاً عما كان عليه زمن العصور العباسية. انه كتاب راهني بامتياز.