إنها جملة مشهورة قالتها يوماً أم عبدالله بن الزبير، بعد أن قتله الحجاج، ثم صلبه في نخلة لأيام عدة... عام ونصف العام عمر الثورة السورية، التي لم تشهد ثورات العالم كله، على مر العصور، شجاعة وإقداماً مثل شجاعة وإقدام فرسانها، ولكن ألم يئن الأوان أن ينظر المجتمع الدولي بعين الرحمة والعطف لهذا الشعب «الفارس» الذي يتعرض لمجازر يومية أن يترجل؟ حين كتبت قبل 15 شهراً مقالاً في هذه الصحيفة بعنوان «ضرورة التدخل العسكري في سورية»، طالبت فيه بضرورة التدخل العسكري لحماية الشعب السوري؛ لأنني تنبأت بأن النظام الأسدي لن يتخلى عن السلطة إلا بعد قصف المدن بالطائرات والصواريخ، اتهمني بعضهم بالخيانة، وبأنني أسعى إلى العودة إلى سورية، بعد 30 عاماً من الغربة، على ظهر دبابة أميركية. السبب الرئيس في عدم تقدير المعارضين للأمور في سورية انخداعهم بنجاح الثورات العربية خلال مدة وجيزة، فقد توقع من خرج في المظاهرات الأولى في المدن والقرى فيها أن النظام ربما سيسقط خلال شهر أو شهرين على أبعد تقدير. ومن أسباب غموض الرؤية عندهم أيضاً التصريحات النارية الخلبية الأولى التي صدرت عن الحكومة التركية وبعض الدول الغربية، التي جعلت الشعب السوري يصدقهم، فيحلم بنيل حريته من نير الحكم الاستبدادي للعائلة الأسدية. بعدما خيّب مجلس الأمن الدولي آمال الشعب السوري في مساعدته في محنته للتخلص من هذا النظام الدموي، أخذ السوريون يتساءلون عن السبب، على رغم أن المجلس عينه اتخذ قرار إدانة بالإجماع في حال ليبيا واليمن وغيرهما من الجلسة الأولى بخصوصهما. وتعددت أطروحات تفسيرات السوريين، فمنهم من قال: إنه ليس لدينا بترول، ومنهم قال: إن الغرب يخشى من حرب إقليمية، ومنهم من عزاها إلى تهرب الغرب من واجبه الأخلاقي هو بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها. ولكن خفي عن بعضهم حقيقة أن علاقة هذا النظام مع إسرائيل هي أمتن من علاقة إسرائيل مع الكثير من دول العالم. بل فات على الكثير منهم حادثة تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا أثناء زيارته لتلك الدول، حين صرح زعماء تلك الدول، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، بأنه يجب تغيير النظام السوري. وإذا أردنا التعمق أكثر في أسباب تخاذل وتراجع المجتمع الدولي عن دعم الشعب السوري، فيجب علينا العودة إلى بداية الثورة، حين شاركت ثلة صغيرة من المعارضة تنتمي لشرائح من المجتمع السوري، بأديانه وطوائفه ومذاهبه، ببعض المظاهرات، وأعلنت بعض الشخصيات العلمانية المقيمة في الخارج عن مواقفها المؤيدة للثورة. كان الحراك العلماني متواضعاً، ثم انطفأت جذوة ناره بعد أشهر عدة، ولم نعد نسمع عن قيام مظاهرات في بعض المدن التي يقطنها غالبية درزية أو إسماعيلية، مثل السويداء أو السلمية، بل إن انشقاق الضباط والجنود عن جيش النظام من الطوائف غير السنية لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة. إن الحقيقة الساطعة التي لا تخفى على كل ذي لب هي تغليب الصبغة الإسلامية السُّنِّيَّة للثورة، التي قامت ضد الطغيان الطائفي، فمعظم المظاهرات انطلقت وتنطلق من المدن والقرى ذات الغالبية السُّنِّيَّة، مثل: درعا، وحماة، وحمص، وإدلب، ودير الزور، وغيرها من المدن والقرى. كما أن معظم الشعارات التي رُفعت تحمل الطابع الإسلامي السني. وإن معظم الألوية والكتائب التي شكلها الضباط والجنود المنشقون سميت بأسماء إسلامية بحتة، ولم نسمع عن كتائب مقاتلة بأسماء مسيحية، أو درزية، أو غيرهما من الطوائف. بل حتى أن الأكراد الذين حملوا السلاح ضد النظام تراجعوا بعد أن تنازل لهم النظام عن المناطق الكردية من دون قتال؛ بقصد شراء صمتهم عن مجازره بحق أهل السنة في محافظة دير الزور وغيرها من المناطق الشمالية. وما يؤكد أيضاً طابع الصبغة السنّية للثورة أن النظام لا يقصف بالمدفعية والدبابات إلا المدن والقرى التي يقطنها أهل السنّة؛ بينما نجد أن القرى والأحياء المسيحية، وجبل الدروز، ومدينة السلمية في منأى عن هذا القصف. ومعظم المجازر التي حصلت وتحصل كانت في المدن والقرى السنية. على رغم ذلك كله مازال بعض العلمانيين يرفعون عقيرتهم مطالبين بتأسيس دولة علمانية على حساب أهل السنة الذين يشكلون نسبة 80 في المئة من سكان سورية. إن معضلة تأخير نجاح الثورة السورية يرجع إلى أن رؤية الغرب الإستراتيجية لمرحلة ما بعد سقوط النظام تختلف عن رؤية من يقاتل على الأرض، وإذا كان الغرب غض الطرف عن تسنم الأحزاب والتيارات الإسلامية لكراسي الحكم في البلدان العربية التي نجحت فيها الثورات، ولكنه في الوقت نفسه لا يمكنه تقبل رؤية رايات ترفع في المدن والقرى السورية مكتوباً فيها «لا إله إلا الله»، كما لا يمكنه هضم رؤية أولئك الشباب المجاهدين على القنوات الفضائية، وهم يضعون على جباههم عصابة سوداء مدون عليها «لا إله إلا الله»، لقد استطاع النظام الأسدي الطائفي الدموي، بدعم من روسيا وإيران، أن يستغل بمكر هذا الأمر، فحوّل مفهوم الثورة الشعبية إلى معركة بينه وبين من سمّاهم إرهابيين وإسلاميين متشددين. وما يؤكد هذا الطرح أيضاً إصرار الغرب على إفشال المجلس الوطني السوري الذي تأسس منذ عام؛ لأن من أسسه وسيطر على قراراته جماعة الإخوان المسلمين، ولم يشفع لمؤسسيه إذعانهم لتنصيب برهان غليون العلماني رئيساً له، وتنصيب خليفته عبدالباسط سيدا، صاحب التوجه العلماني أيضاً، الذي يرفض أن يبسمل باسم الله في بداية كل خطاب أو تصريح له. ولم تكن قضية التصريح بالاعتراف به كممثل للشعب السوري إلا لذر الرماد في العيون. إن ما يبحث عنه الغرب بديلاً لنظام الأسد هو دولة علمانية؛ لأنها ستعطيه تطمينات بأن سورية ما بعد الأسد ستضمن مصالحه الإستراتيجية في المنطقة، ولن يسمح أن تتحول سورية إلى واحة إسلامية تنشط فيها التيارات المتشددة، وسيكون بالمرصاد لأي احتمالات أسلمة للثورة، لذا كان عليه لتحقيق هذه الرغبة أن يصمت عن مجازر الأسد ضد الطائفة السنية، التي أضحى أكثر 20 في المئة منها بين شهيد، أو جريح، أو معتقل، أو مهجر. * باحث في الشؤون الإسلامية.