الهجوم الذي شنَّه مسلحون على مكمن «الماسورة» العسكري جنوب رفح وقتلوا خلاله 16 جندياً، فرض على السلطات المصرية مواجهة ملف ظلَّ على مدار عقود مسكوتاً عنه بفعل عوامل سياسية ولوجيستية وأمنية، وهو: تنامي التنظيمات المسلحة في سيناء وسطوة الجماعات الخارجة عن القانون، فضلاً عن انتشار السلاح بين بدو سيناء كما الماء والطعام، حتى إن منطقة جبل الحلال معروف عنها أنها تضم أوكار تجار السلاح ومخازن هذه العصابات لكن الدولة لم تكن قادرة أو راغبة في فتح جبهة قتال ليس سهلاً في هذه البقعة التي تتسم العلاقات القبلية فيها بطبيعة خاصة، فضلاً عن قيود سياسية وأمنية يفرضها اتفاق «كامب ديفيد» وتحول دون مواجهة هذه العصابات. ولطالما أصر النظام السابق على إنكار تنامي الإرهاب في سيناء على رغم تحدي المسلحين سلطة الدولة في الأشهر الأخيرة قبل سقوط النظام، حتى إنهم دأبوا على عقد مؤتمرات صحافية دعوا إليها وسائل الإعلام في مناطق معلنة وأمنوها بالسلاح لتحذير الدولة من مغبة عدم إطلاق زملائهم، وفي هذه المؤتمرات الصحافية ظهروا مسلحين بأسلحة خفيفة ومتوسطة، ما مثّل إحراجاً شديداً للدولة. لكن مواجهة هذه الجماعات المسلحة لم تكن متاحة، إذ إن الملحق الأمني في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية يُقسم سيناء إلى ثلاث مناطق: منطقة «أ» ينتشر فيها الجيش المصري بعدد يصل إلى 22 ألف جندي وتشرف عليها لجنة تضم 3 ضباط (مصري وإسرائيلي وأميركي) للتأكد من تعداد أفراد الجيش المصري وعدد قطع الأسلحة المتفق عليها. والمنطقة «ب» تضم أربع فرق من قوات حرس الحدود بما يلزمها من تجهيزات أرضية وبحرية من دون قوات جوية، أما المنطقة «ج» الملاصقة للحدود المصرية - الإسرائيلية فلا يسمح فيها إلا بوجود قوات شرطة بتسليح خفيف، ولكن سُمح أخيراً بعد مفاوضات مصرية - إسرائيلية بوجود وحدة لقوات حرس الحدود فيها بتسليح شخصي فقط، وهي الوحدة التي هوجمت في 5 آب (أغسطس) الجاري، إلى جانب القوات المتعددة الجنسية وقوامها أميركي بالأساس. ويحظر على الطائرات الحربية المصرية التحليق إلا في سماء المنطقة «أ» التي تبعد عن الحدود مع إسرائيل آلاف الأميال، وذلك بموجب نصوص اتفاقية السلام. وكذلك يحظر على مصر إنشاء أي مطار أو ميناء حربي في سيناء وحول شواطئها. استفادة من الانفلات الأمني وساعد هذا الوضع إضافة إلى إهمال المنطقة وعدم تنميتها وانتشار التطرف الديني، في تنامي قوة التنظيمات المسلحة واستقطابها أفراداً من أبناء القبائل لهم عزوة وحظوة في مناطقهم. واستفادت هذه الجماعات من الانفلات الأمني الذي أعقب ثورة 25 يناير، فانضم إليها عدد من الهاربين من السجون كما استطاعت أن تؤمن لنفسها تسليحاً ثقيلاً، حتى إن مصادر أمنية تحدثت عن تعاون أجهزة استخبارات أجنبية في نقل السلاح إلى سيناء من أجل إحداث توتر في منطقة الحدود يكون ذريعة لمطالبة إسرائيل بفرض رقابة دولية على منطقة سيناء، وهي دللت على صدق استنتاجاتها بكميات السلاح التي ضبطت بعد الثورة في طريقها إلى الجماعات المسلحة في سيناء، حتى إن إحدى الشحنات المضبوطة قدرت بعشرات الملايين من الدولارات. وفرضت التنظيمات المسلحة بعد الثورة سطوتها على المناطق الجبلية والحضرية في سيناء وباتت أقوى من الدولة حتى إن مسلحين ملثمين يرفعون راية تنظيم «القاعدة» السوداء، هاجموا مراراً مراكز الشرطة في مدينة العريش وظهروا في وسط المدينة أكثر من مرة ساعات عدة ووزعوا بيانات أعلنوا فيها تأسيس ما اعتبروه «إمارة إسلامية» في سيناء، وظلت سلطة هؤلاء تتنامى في مواجهة سلطة شيوخ القبائل في المنطقة في وضع أشبه بما حصل في منطقة القبائل في باكستان التي باتت مأوى لتنظيم القاعدة. وقدر مصدر أمني عدد المسلحين في سيناء ب1600 شخص بينهم 120 متطرفاً يُعتقد أن بينهم من شنوا هجوم «الماسورة». ولم تستبعد أن يكون بينهم أجانب واتصالات بتنظيمات فلسطينية في غزة. وقال منظّر «الجماعة الإسلامية» ناجح إبراهيم إن هذه المجموعات التكفيرية كان يقودها خالد مساعد الذي قُتل عام 2005 بعد تأسيس تنظيم «التوحيد والجهاد»، مشيراً إلى أن «هذه الجماعات يغلب عليها فكر التكفير، وهي التي نفذت تفجيرات طابا ودهب وشرم الشيخ (2004 و2005 و2006) التي قُتل فيها عدد كبير من المسلمين». تبادل وأضاف: «بعد الثورة احتلوا قسم شرطة العريش وقتلوا ضابطاً في الجيش وضابطاً في الشرطة وخطفوا 3 ضباط في الشرطة ما زال مصيرهم غير معلوم حتى الآن ودمروا مدرعة للشرطة وأسروا مجموعة من الجنود وسياحاً للإفراج عن زملاء لهم، وبالفعل تمت عملية تبادل إذ أفرجت خلالها الشرطة عن عدد من التكفيريين مقابل إطلاق سراح جنود وسياح لأن الدولة المصرية بعد الثورة أصبحت دولة رخوة وتكاد تكون فقدت السيطرة على سيناء تماماً». وأوضح أن عدد هؤلاء التكفيريين الذين يعتقد جازماً بأنهم يقفون خلف الهجوم على مكمن الجيش، «زاد بعد أن منحوا حرية الحركة»، مشيراً إلى أنهم «يتركزون في جبل الحلال في سيناء وعلاقاتهم بمهربي الأسلحة في هذه المنطقة سمحت لهم بالحصول على كميات كبيرة من السلاح». وأوضح أن «التمويل لا يمثل أي مشكلة بالنسبة إلى هذه الجماعات لأنهم يؤمنون بفكر الاستحلال». ولم يستبعد أن تكون تلك الجماعات خلف حوادث سرقة السيارات بعد الثورة وتهريبها إلى قطاع غزة لتأمين التمويل من هذه العمليات أو رعاية عدد من الأنفاق عبر الحدود والحصول على أموال مقابل تهريب بضائع أو أفراد. ولفت إلى أن «عدداً كيبراً من أعضاء هذه الجماعات تمكن من الهرب من سجن دمنهور وسجون أخرى أثناء الانفلات الأمني الذي تلى أحداث جمعة الغضب» في 28 كانون الثاني 2011، لافتاً إلى أنه حاضر في عدد منهم على مدار أشهر في السجون «من أجل إقناعهم بفكر المراجعات وعدم تكفير المسلم حاكماً كان أم محكوماً أم شرطة أم جيشاً وعدم جواز قتل المدنيين، واستجاب عدد منهم لهذه المحاضرات». وقال إن جماعة «التوحيد والجهاد» تتبنى فكر «القاعدة»، لافتاً إلى أن فكرها الأساس يقوم على «التكفير والتفجير»، وهي تقول إنه «ما دام هناك تكفير فلا بد من التفجير». وأكد أن عدداً من أعضاء هذه الجماعات قُتل خلال فض الجيش اعتصام سلفيين أمام وزارة الدفاع في أيار (مايو) الماضي، «لذا هم يعتبرون أن هناك ثأراً بينهم وبين الجيش»، مشدداً على أن لهم صلات بالخارج. واستبعد مسؤول ملف العلاقات الخارجية في الجماعة محمد ياسين أن يكون أي من الجهاديين العائدين من خارج مصر بعد الثورة انضم إلى هذه الجماعات. وأوضح أن «هذه الجماعات بدأت أصلاً سلفية ثم تشددت في فكرها ربما بسبب تعرض بعضهم للقتل أو التعذيب في السجون ما أكسبهم أعضاء جدداً». ولفت إلى أن «لهم علاقات ببعض الجماعات الفلسطينية وأن جنسيات غير مصرية اندمجت معهم». وأيد حديث إبراهيم عن أن معظم أعضاء هذه الجماعات هربوا من السجون أيام الانفلات الأمني وأن بعضاً منهم تم إطلاقه بعد قضاء فترة محكوميته. ولفت إلى أنهم «يتلقون تبرعات من الداخل والخارج»، ولم يستبعد أن تكون أجهزة استخبارات أجنبية «اخترقت هذه المجموعات وتحركها من خلال عملاء. معسكرات معروفة وقال عبدالمنعم الرفاعي، وهو أحد شيوخ قبائل سيناء، إن «معسكرات تدريب (الجهاديين) موجودة في سيناء والكل يعلم بذلك حتى الجهات الأمنية»، موضحاً أن «أهل سيناء أبلغوا الجهات الأمنية بأماكن هذه المعسكرات المنتشرة في أكثر من موقع فيها ولكن لم يتم التحرك ضدها». وأشار إلى أن «الفقر والتهميش ساعد على انتشار فكر التشدد وأنه طالما نادى شيوخ القبائل بتنمية سيناء، لكن للأسف الحكومة تطبق معايير التنمية بمفاهيم خاطئة، إذ قصرت هذا الأمر على إقامة منتجعات سياحية في جنوبسيناء وجلبت لها العمالة من القاهرة ليظل شباب سيناء أسرى للفقر وفكر التشدد». والتفتت السلطات إلى حقيقة أكدها الرفاعي وهي أن لا حل أمنياً للأوضاع في سيناء، فبالتزامن مع العملية العسكرية «نسر» التي تنفذها قوات الجيش والشرطة هناك، كثفت القيادات العسكرية وعلى رأسها وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي ورئيس الأركان الفريق صبحي صدقي من زيارة المنطقة ولقاء شيوخ القبائل من أجل كسب دعمهم وتأييدهم لهذه الحملة العسكرية وكذلك إغداق الوعود على أهالي سيناء بمشاريع مرتقبة ستغير وجه الحياة في هذه البقعة التي لطالما أهملتها الدولة باعتراف الرئيس محمد مرسي وقادة الجيش؛ حتى إن مرسي نفسه دخل على هذا الخط واعداً أهالي سيناء بتنمية سيشهدونها قريباً بعد تخصيص بليون جنيه لإقامة مشاريع، إضافة إلى مئات الملايين التي خصصتها القوات المسلحة لإقامة مشاريع اختارها أهالي سيناء بأنفسهم. وتعي السلطة الجديدة في مصر جيداً أنه لا يمكن حسم الأمر عسكرياً؛ لأن ذلك من شأنه إدخال الجيش في مواجهة مفتوحة مع الجماعات المسلحة في جبال سيناء قد تتحول فيما بعد إلى «حرب عصابات» ربما تنتقل إلى مدن القناة القريبة، وهو ما أكده مصدر أمني بالحديث عن إعادة المسلحين التمركز وسعيهم إلى فض الحصار الأمني الذي يطوقهم في سيناء من خلال الهرب عبر دروب الجبال إلى مدن القناة المجاورة. وكشف المصدر عن رصد تمركز مجموعات مسلحة في صحارى رأس سدر المطلة على خليج السويس، وهو أمر تنظر إليه الجهات الأمنية بخطورة بالغة في ظل قدرة هذه الجماعات على استهداف القطع البحرية في المجرى الملاحي لقناة السويس إن تمكنت من خلق موطئ قدم لها على شواطئه، وهو ما استدعى زيارة عاجلة لرئيس أركان الجيش جنوبسيناء ولقاء مع شيوخ القبائل لحضهم على مساعدة السلطات في منع المسلحين من الهرب إلى مدن القناة والإبلاغ عن أي غرباء في مناطقهم خصوصاً أن «أهل مكة أدرى بشعابها» وبدو سيناء هم فقط من يستيطعون اقتفاء أثر أي غرباء في صحاريها الممتدة. حوار ولم تقف مساعي السلطات عند الحملة العسكرية ووعود التنمية، بل إن الحكم الجديد استفاد من خلفيته الإسلامية، فأرسل قيادات إسلامية انخرطت في السابق في العمل الجهادي وخاضت مواجهات ضد السلطة من أجل محاورة قادة التنظيمات المتشددة في سيناء، خصوصاً الحركة «السلفية الجهادية» التي حذرت الجيش من أن حملته التي يشنها على الجهاديين في المنطقة ستضطرها إلى مقاتلته. وقال محامي الجماعة الإسلامية مجدي سالم، الذي كان ضمن وفد القيادات الإسلامية، إن «الهدف من الزيارة كان التأكد من براءة التيار السلفي الجهادي في سيناء من هجوم رفح الإجرامي، وبالفعل أعلن قادة هذا التيار أن هذا العمل غير شرعي ودانوه بكل قوة وأكدوا أنهم يؤيدون الشرعية ويقفون في صف الرئيس محمد مرسي لاستقرار البلد والحفاظ على أمنه». وأضاف سالم أن قادة الحركة عزوا البيان الذي حمل تهديداً للجيش إلى التجاوزات الأمنية التي حدثت في حقهم بعد هجوم رفح، لكنهم أكدوا احترامهم وتقديرهم للجيش وجنوده. وأوضح أن «السلفية الجهادية أكدت أن شبابها سيهتمون بالدعوة في الفترة المقبلة». وقال البرلماني السابق نزار غراب إن الوفد التقى سليمان أبو عمر قائد «السلفية الجهادية في سيناء» وتبين براءة الجماعة من حادث قتل الجنود وأنهم واعون بقضايا مصر في المرحلة الحالية وبعيدون من أي عمل تخريبي. وأوضح غراب أن الوفد استمع إلى ما تعرضوا له من انتهاكات ظالمة «وحاولنا احتواء أي احتقان يترتب على هذه الانتهاكات وسنسعى إلى مواصلة هذه الأمر لحقن الدماء والقضاء على التوتر بين الأمن والمجموعات الجهادية». كما يستعد الأزهر لإرسال قوافل دعوية وثقافية إلى سيناء لمواجهة الفكر التكفيري. وكشفت مصادره عن خطة شاملة يعدها حالياً للتصدي بكل قوة لمعتنقي تلك الأفكار على المدى الطويل خصوصاً أن علماء الأزهر لديهم سابق خبرة في هذا المجال، إذ سبق أن ناقشوا الجماعات التي مارست أعمالاً إرهابية في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته ونجحوا في إقناعهم بخطأ معتقداتهم وإجراء مراجعات فكرية. وأوضح أن الفرق بين المراجعات وما سيتم هو أن المراجعات كانت موجهة للمعتقلين في السجون أما الخطاب اليوم فسيوجه للشباب في الساحات والأندية والمساجد وغيرها من أماكن التجمعات.