هناك بين أصناف الأدب صنف يسمى «ديستوبيا». وهو صنف نادر الوجود ينتمي في شكل عام إلى وضعية تتأرجح بين الخيال- العلمي والخيال السياسي، ناهيك بإطلالة ما على التاريخ. وفي شكل مختصر يمكن القول إن الأمر يقوم هنا على كتابة الأديب لفصل من التاريخ بشكل يعاكس ما كانت عليه مسيرته الحقيقية التي تسردها لنا الكتب العلمية. وفي معظم الأحيان تكون الغاية من هذا النوع من الكتابة، سياسية في شكل أو في آخر. وعلى قلة الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى هذا النوع، من المعروف عادة أن كل عمل من هذه الأعمال يلقى رواجاً نقدياً وإقبالاً من قبل القراء، حتى وإن كان لا يعتبر عادة الأكثر اجتذاباً لهؤلاء من بين المتن الذي ينتجه الكاتب. ومن دون أن ندخل هنا في التفاصيل واللوائح وترتيب الأفضليات يمكننا أن نقول ببساطة إن واحدة من أفضل روايات النصف الثاني من القرن العشرين في هذا المجال هي رواية الكاتب الأميركي الراجل فيليب كي ديك «رجل القصر العالي» التي كثيراً ما يتساءل النقاد ومؤرخو الأدب عن السبب الذي يجعل السينمائيين قليلي الرغبة في أفلمتها هم الذين حوّلوا حتى اليوم نصوصاً عدة لديك إلى أفلام يعتبر بعضها علامات في تاريخ السينما، من «بلاد رانر» إلى «توتال ريكول» – التي حققت في فيلم ثان قبل شهور بعد أفلمتها مرة أولى قبل عقود – إلى «داركلي سكانر» التي حققت في ما يشبه الرسوم المتحركة وصولاً إلى «بيشيك» وأخيراً، لا آخراً، «أوبيك» التي تقول الأنباء إنها في طريقها الآن لتتحوّل فيلماً... والحقيقة انه إذ يمكن للائحة الأفلام المقتبسة عن نصوص ديك أن تطول، تظل الرواية التي نحن في صددها هنا بعيدة عن الشاشة الكبيرة وإن كان معروفاً أن ريدلي سكوت (الذي حقق الفيلم الأفضل في اقتباس عن ديك حتى الآن، «بلاد رانر») وقّع عقداً لتحويل الرواية إلى عمل تلفزيوني من إنتاج «بي بي سي». قبل عامين. مهما يكن من الأمر لا بد من الإشارة هنا إلى أن كثراً من النقاد ودارسي أدب القرن العشرين يعتبرون «رجل القصر العالي» أفضل أعمال ديك، بل هي بالنسبة إلى الغلاة منهم «أفضل رواية خيال علمي كتبت في الأزمان الحديثة» هذا على رغم صعوبة اعتبارها تنتمي إلى هذا الأدب. فرواية «رجل القصر العالي» هي قبل أي شيء آخر، رواية سياسية تتعاطى مع التاريخ مقلوباً لتقول الكثير من الأمور بين سطورها. أما التاريخ الذي يتم التعامل معه هنا على هذه الشاكلة فهو تاريخ الحرب العالمية الثانية. حيث أن الرواية التي تدور أحداثها عند بداية ستينات القرن العشرين، تفترض بأن الحلفاء لم يربحوا الحرب العالمية الثانية بل أن قوات المحور ربحتها ملحقة بالولاياتالمتحدة والعالم كلّه هزيمة قاتلة. ولقد كان من نتيجة ذلك أن تقاسم الألمان النازيون واليابانيون مناطق أميركا الشمالية في ما تقاسموه من أرجاء العالم. وها نحن الآن في ما كان يسمّى الولاياتالمتحدة وقد صارت محكومة بين النازيين في الشرق واليابانيين في الغرب، وبين المنطقتين أرض ضيقة محايدة تتوزع بين كولورادو وروكي ماونتن ويعيش فيها الناس في خوف ومسكنة. وقبل ذلك كان الألمان النازيون قد أرسلوا أول كائن بشري إلى سطح المريخ وأبادوا السود الأفارقة استكمالاً منهم للحل النهائي الذي كان أباد اليهود. وكذلك كانوا قد جففوا البحر الأبيض المتوسط ليحوّلوه إلى أراض صالحة للزراعة. غير أن هذا كله كان قد حدث قبل أن تبدأ احداث الرواية، أما الأحداث في حد ذاتها فإنها تبدو منذ مفتتح الفصل الأول غير قادرة على دفعنا إلى توقّع أحداث من هذا النوع. فالبداية شديدة البساطة: بائع بقال في بلدة صغيرة في كاليفورنيا يتصل به زبون ياباني معتاد ليسأله عما إذا كان قد حصل له على تحفة كان قد أوصاه عليها، هي عبارة عن مسدس من أيام الحرب الأهلية الأميركية. البائع لم يحصل على التحفة حتى الآن... ومن هنا يعتريه نوع من القلق الذي سرعان ما سوف نفهم دوافعه ومبرراته. ذلك أننا سنعرف أن الياباني المتصل إنما هو يتصل باسم أحد كبار الحكام اليابانيين للقسم الغربي مما كان يسمى الولاياتالمتحدة الأميركية... وصحيح أن الرجل لطيف ويتسم سؤاله بقدر كبير من التهذيب غير أن البائع يعرف تماماً أن هذه الأخلاق تخفي عزماً وصرامة وأن عليه أن يحصل على المسدس للحاكم الذي ندرك بسرعة أنه كمواطنيه الحاكمين أميركا ونصف العالم اليوم، من هواة الفنون وجمع التحف. أما شركاؤهم في احتلال العالم، الألمان، فإنهم أكثر اهتماماً بالعلم والسياسة والاقتصاد وممارسة السلطة القمعية على عادتهم. ومع تقدم أحداث الرواية سوف يدرك القارئ هذا كله في شكل واضح ومفصّل، كذلك سوف يدرك أن السمسار التجاري للحاكم الياباني تاغومي والبائع فرانك فرينك، والسيدة جوليانا زوجة هذا الأخير، قد يكونون شخصيات رئيسة في الرواية... ولكنهم بالطبع، ليسوا كلّ شخصياتها. وذلك لأن رواية ديك هذه، من بعد كونها في المقام الأول، رواية أحداث وقلبات مسرحية مباغتة، هي كذلك رواية شخصيات. وبالتحديد شخصيات متعددة ومتضاربة تظهر لنا بين الحين والآخر في الترابط والتناحر في ما بينها في شكل قد يبدو أحياناً أشبه بالمتاهة... ومع هذا فإننا حتى الآن لم نصل في كلامنا على هذه الرواية إلى عقدتها الأساسية... والتي تعطي العمل ككل عبقريته: فالحال أن ثمة من بين القوم «المحايدين» قاطني روكي ماونتين، كاتب أمضى ردحاً من وقته هناك وهو يكتب رواية «خيال علمي» (أو بالتحديد رواية «دستوبيا») يتخيّل فيها أن التاريخ القريب لم يجر على الشاكلة التي توصف في الرواية الأصلية. تحمل رواية هذا الكاتب واسمه هاوثورن آبندسن عنواناً لا يقول للوهلة الأولى أي شيء هو «الجندب يستلقي ثقيلاً»...غير أن الرواية في حد ذاتها تجتذب إلى قراءتها، ولا سيما في الغرب «الياباني» وفي «الشرق» الواقع تحت الاحتلال النازي، عشرات ألوف القراء من الذين إذ يغوصون في قراءة الرواية يبدأ وعيهم الاحتجاجي بالتمرّد على الواقع القمعي الذي يعيشون ويبدأ هذا الوعي بالتحوّل إلى بدايات تحرك سياسي غايته في نهاية الأمر مقارعة النازيين واليابانيين وربما العودة إلى وضعية عالمية تخلص البشرية من الطاعون النازي، بل علينا أن نضيف هنا أن كتابة الرواية كانت أصلاً جزءاً من مؤامرة ضد المحتلين... وطبعاً لن نقول هنا ما هي المؤامرة ومن هم أصحابها ولا كيف ستنتهي الرواية، وكيف سيمكن للأدب الخيالي هذا أن يعيد تشكيل العالم من جديد، بل سنكتفي بالقول إن من سيحب قراءة هذه الرواية سيجد أمامه في نهايتها أكثر من مفاجأة... غير أن هذا كله لن يبدو شديد الوضوح في نهاية الأمر، بخاصة أن فيليب كي ديك سوف يوقف الرواية فجأة... ولقد قيل دائماً أنه كان قبل وفاته في شكل مبكر – وللأسف قبل شهور قليلة من العرض الأول لفيلم ريدلي سكوت «بلاد رانر» الذي كان أول فيلم كبير يقتبس عن عمل له، في عام 1982 -، كان قد أعلن أنه في صدد كتابة جزء مكمّل لها يعيد فيه قلب الأحداث من جديد مباغتاً قراءه مرة أخرى... غير أنه لم يفعل كما يبدو. مهما كان من الأمر هنا، لا بد من العودة إلى مجرى الرواية نفسها لنقول إن انتشار الرواية داخل الرواية، أي «الجندب يستلقي ثقيلاً» للكاتب آبندسن، جعل سلطات الاحتلال النازية تطارد الكاتب لقتله. أما هو فإنه يسعى كيلا يمكنها من ذلك، وكذلك يسعى معه العديد من أشخاص الرواية. ولئن كان هذا التأييد النابع عن الدور السياسي التوعوي الذي تلعبه رواية آبندسن داخل رواية «رجل القصر العالي» (علماً بأن هذا الرجل المذكور في العنوان إنما هو آبندسن نفسه)، يشكل السلاح الأول الذي يحمي هذا الكاتب المشاكس، فإن لديه كذلك سلاحاً لا يقل قوة وأهمية وهو بالتحديد كتاب المتغيّرات الصيني «آيتشنغ» الذي يسيّر سكناته ويهذب أفكاره في شكل دائم. والحال أن العلاقة بين آبندسن وهذا الكتاب الصيني عنصر أساسي في الرواية ناهيك بأنه في واقع الأمر انعكاس لواقع العلاقة بين كاتب الرواية الأصلية فيليب كي ديك ونسخته الخاصة من كتاب المتغيّرات هذا. وديك نفسه تحدث في لقاءات صحافية كثيرة تلت صدور روايته الكبيرة هذه في عام 1962 عن ذلك الكتاب ما جعله يصبح، اقتناء وقراءة، على الموضة في أميركا ذلك الحين. إذاً، بعد كل شيء، نحن هنا أمام أكثر من لعبة مرايا في هذه الرواية التي يقال دائماً إنها ارتقت بأدب الخيال العلمي كما أعادت الحياة إلى أدب «الدستوبيا». وهي اعتبرت من أهم أعمال فيليب كي ديك (1928-1982) وطبعت عشرات المرات حتى الآن من دون أن تجد طريقها إلى الشاشة الكبيرة كما أشرنا، ولعلها الآن بدأت تسلك هذا الطريق. [email protected]