حينما كشفت الأزمة المالية العالمية عن وجهها القبيح بعد انهيار «ليمان بروذرز» في منتصف أيلول «سبتمبر» من العام الماضي، وتساقطت المصارف والشركات العالمية في فخ «الإفلاس» وعجز السيولة ومن ثم طلب الضمان من الحكومات، سارع مسئولو مؤسسة النقد - وتحديداً محافظها محمد الجاسر - إلى الظهور الإعلامي وطمأنة المستثمرين والمواطنين إلى أن الوضع المصرفي في المملكة لم يتأثر وليس هناك أي تخوف من انهيارات ولا إفلاسات ولا أزمات، وهو ما حسبناه حينها لمسئولي المؤسسة وشكرناهم عليه، على رغم اختلاف بعض الاقتصاديين معهم حول سياسة المحافظة الشديدة التي حرمتنا فرصاً قد تكون إيجابياتها أكبر من إيجابيات التحفظ، ولا اختلاف بين الطرفين في ضرورة الرقابة الصارمة على النظام المصرفي. ولكن الملاحظ أنه عكس «التحفظ» الكبير في قطاع المصارف، انتهجت المؤسسة سياسة «الانفتاح» الكبير وقلبت سياستها في قطاع التأمين ب 180 درجة، والتأمين هو القطاع الثاني بعد المصارف الذي تتولى المؤسسة مسؤولية الإشراف عليه وتنظيمه والتصريح لشركاته ومن ثم مراقبة أدائها. ففي مقابل 12 بنكاً محلياً في قطاع البنوك الذي يزيد عمره عن 70 عاما (مع إضافة البنك الأهلي)، هناك 25 شركة مساهمة مدرجة في قطاع التأمين، رغم أن عمر القطاع لا يزيد فعلياً عن ثلاث سنوات «هناك أيضا 3 شركات سيتم طرحها قريباً بحسب إعلان هيئة السوق»، بمعنى أن العدد سيصل إلى 28 شركة تأمين قبل نهاية العام. والشركات المدرجة حالياً في قطاع التأمين تمثل تقريبا 20 في المئة من إجمالي الشركات المتداولة في السوق، وحققت 14 شركة منها خسائر في نتائجها للربع الثاني لهذا العام، كما أنها جميعها شركات صغيرة لا يصل إجمالي قيمتها السوقية إلا حوالى 21 بليون ريال، وهو ما يعني أنها لا تستطيع مجتمعة التأمين على شركة سعودية كبيرة مثل «الخطوط السعودية». وبالتأكيد أيضاً هي شركات مضاربة أكثر منها شركات استثمار، فقد تم تدوير الأسهم الحرة لشركة «اكسا» للتأمين التي طرحت الأسبوع الماضي بنسبة بلغت 250 في المئة، واستأثرت هذه الشركة الصغيرة ب 832 مليون ريال في «تدوير» أسهمها يوم الاثنين الماضي، وهي مبالغ خيالية بكل المقاييس على شركة رأس مالها لا يزيد عن 200 مليون ريال. وللسبب الأخير، لا ينتظر من طرح مزيد من هذه الشركات تعميق سوق الأسهم، ولا جلب سيولة إضافيه إليه، وإنما هي خيار مفضل لل «غروبات» ومضاربي «اضرب واهرب» التي عمقت أزمة سوقنا المالية وأطالت أمدها ومداها. هذا من جهة تأثيرها في السوق، وأما النقطة الأخرى فهي إلى متى يستمر طرح هذه الشركات؟ وكم يحتاج سوقنا السعودي من شركة تأمين؟ وهل هذه النوعية من الشركات الصغيرة هي ما نحتاجه حالياً؟ أسئلة كثيرة لا تجد إجابة وافيه من مؤسسة النقد، على رغم أن الإحصاءات الأولية التي سبقت طرح هذه الشركات تشير إلى حاجة السوق السعودي إلى 10 إلى 15 شركة، ولكن العدد قارب الضعف، والحبل على الجرار - كما يقال- فلم تعلن المؤسسة عن عدد محدد حتى ليعلق أحد الزملاء بأن المؤسسة تنوي التأمين على الكرة الأرضية بكافة دولها وشعوبها وشركاتها، وهو تعليق مناسب إذا ما استمر طرح الشركات في قطاع التأمين بهذه الوتيرة والتسارع، والنهاية أن كثيراً منها سيخرج من السوق بعد انقضاء الغرض المضاربي من تأسيس هكذا شركات. إن التوقف عن طرح مزيد من شركات التأمين، وإعادة دراسة القطاع، ودراسة قدرة الشركات الحالية على المنافسة وتحقيق أرباح تشغيليه تعينها على البقاء في السوق، أصبح أمراً حتمياً يجب على المؤسسة القيام به اليوم قبل الغد، لأن طرح مزيد من الشركات سيؤدي في النهاية إلى خروج كثير منها، ومنعها قبل التأسيس أهون من إفلاسها تباعاً وتأثير ذلك على اقتصادنا فيما بعد. اقتصادي سعودي - بريطانيا [email protected]