«الأزمة» في سورية، وفق السيد بشار الأسد، مزيج من مؤامرة خارجية وإرهاب داخلي (مقابلة معه في قناة الدنيا، 29/ 8). والمؤامرة عالمية: «يقودها العالم كله ضد سورية ويشارك فيها العالم كله ضد سورية». ليس واضحاً لماذا هناك مؤامرة أو «مخطط» على «الدولة» التي يشغل السيد بشار موقع رئاستها خليفة لأبيه. يبدو أنها من طبائع الأمور، أمور سورية وأمور العالم. حتى حين تبدو علاقات «الدولة» حسنة مع «العالم»، على ما بدا الأمر بين عامي 2008 و2010، فهذا مجرد طريقة مختلفة في تآمرٍ يبدو هو الأصل في علاقة بين سورية والعالم. وقد كانت خيوط المؤامرة تُحبك حتى أيام الحكم العثماني، قبل نشوء الكيان السوري الحديث. إنها «مخطط» العالم كله طوال الزمن كله على سورية التي سنعلم من «القائد» بعد قليل وحدة الحال بينها وبينه، فإن غرقت الدولة (نظامه) غرقت سورية ذاتها. هذه حالة بارانويا عيانية، مزيج من هذيان اضطهاد وهذيان عظمة، تقترن شبيهاتها عند أشباهه بكثير من الدم والدمار. جديد المؤامرة منذ سنة ونصف سنة هو ظهور «أدوات داخلية» لها، يسميها الرجل أيضاً «العدو الداخلي». والأعداء الداخليون يوصفون أيضاً بأنهم «إرهابيون» جرياً على نهج استعماري قديم وإسرائيلي راهن، وإن مع فارق: الفرنسيون في الجزائر مثلاً والإسرائيليون في فلسطين يطلقون الصفة على مقاوميهم من الشعب الواقع تحت الاحتلال، فيما الإرهابيون في عرف الرئيس الوريث هم محكوموه الثائرون. ومعلوم أن هذا الوضع دفع إلى أذهان كثيرين في سورية أنهم بالفعل تحت وطأة احتلال غريب، لا يملك أدنى تعاطف معهم أو احترام لإنسانيتهم. ظلت كفر نبل تسمي نفسها محتلة إلى أن قصفها الطيران الحربي الأسدي. ولأن المؤامرة من طبائع الأمور، و «الصورة واضحة»، «نحن منذ البداية أخذنا قرار الحسم»، أي القضاء على «الإرهابيين». لكن أسلوب الحسم يختلف باختلاف أساليب التآمر، على ما أوضح الرجل الذي يشعر دائماً بالحاجة إلى شرح نفسه على رغم وضوح الصورة. معلوم أن مواجهة المؤامرة كلفت حتى اليوم حوالى 24 ألف سوري، وتدمير أحياء وبلدات بأكملها، ونزوح ما يزيد على مليونين من ديارهم، منهم ربع مليون إلى البلدان المجاورة، وارتكاب مجازر لا يمكن أن تتقادم مثل مجزرة داريا الرهيبة في 25/8/2012 التي ذهب ضحيتها حوالى 400 من المدنيين ومقاومي «الجيش السوري الحر». ترى، ماذا كان يمكن المؤامرة ذاتها أن تفعل، إذا كان «الحسم» كلّف كل ذلك؟ لا أقل من «غرق الوطن»، أي دماره التام. إذ «لا يمكن أن تغرق الدولة ويبقى الوطن، لسبب بسيط: ارتباط وثيق بين سياسات هذه الدولة وعقيدة هذا الشعب». والدولة هي نظام السيد بشار، فلا نجاة لسورية إن لم تنج «الدولة»، أما «عقيدة الشعب» فهي أي شيء يقرره النظام، وأياً يكن ما يفعله فهو مجرد تطبيق لهذه العقيدة. ظاهر هنا أننا حيال صيغة مواربة من مبدأ «الأسد أو لا أحد»، أو «الأسد أو نحرق البلد» الخاص بشبيحة النظام. تشترك الصيغتان في أن كل ما هو دون «اللاأحد» أو «حرق البلد» أو «غرق الوطن» هو شيء قليل الأهمية، سواء كان قتل 24 ألفاً أو 100 ألف أو مليون، وهو الرقم الذي قيل إن الجنرال جميل حسن اشتهى قتله. لكن يسجل لمبدأ الشبيحة، بأي من صيغتيه، أنه أبلغ وأوضح وأبلغ بكثير من مبدأ الرئيس، وإن فضل «حرق البلد» على «غرق الوطن». وبالمناسبة لم تنسَ القوات الأسدية التي شاركت في مذبحة داريا، الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والشبيحة، أن تخطّ على جدران أحد ملاجئ البلدة توقيعها: الأسد أو نحرق البلد! وفي أي من صيغتيه الرئاسية أو الشبيحية، لا يترك المبدأ فرصة لغير الحرب المطلقة التي تهدف إلى إبادة الخصم وسحقه. وتشخيص السيد بشار الأسد للمشكلة لا يقود في الواقع إلا إلى حرب مطلقة هي بالفعل ما يمارسه نظامه ضد محكوميه الثائرين. هناك «مؤامرة عالمية» و «عدو داخلي» إرهابي لا قضية له ولا حق له في الوجود، فالشيء الصحيح إذاً، هو تدميره لإحباط المخطط الذي يخدمه. استخدام الطيران الحربي والقنابل الفراغية لقصف المناطق السكنية من لوازم هذه السياسة الصحيحة. كان يمكن سحق مناطق بأكملها على ما قال بشار (وليس سحق العدو في مناطق بأكملها، على ما ورد في برقية تتضمن الحوار، عممتها وزارة الخارجية إلى «البعثات كافة»)، لكن قوات الأسد تحرص على شيئين: تقليل خسائر الأرواح، وصون الممتلكات. يصعب التعليق على هذا الكلام، لكنه ربما يستقيم إن أخذنا في الاعتبار إحدى قواعد فهم الخطاب الأسدي: وحده سقوط الأسد محظور مطلق، أما كل ما هو دونه فنسبي ومحدود الأهمية، يتساوى أن يكون عدد الضحايا عشرات الألوف أو مئاتها، وأن تدمر مدينتان أو ثلاث أو عشر. أما في شأن الممتلكات فقد شهد تقرير صدر منتصف الشهر الماضي عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسورية، والمنبثقة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على المقايضات التي تجرى بين عناصر القوات الأسدية للممتلكات المنهوبة من مناطق إدلب. التقرير يذكر أن من أشكال التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون في أجهزة الأمن السورية إجبارهم على الشهادة بأن «لا إله إلا بشار»، ويثبت أن قوات النظام هي من ارتكب مجزرة الحولة في 25/ 5 (الملحق الخامس)، ويقدم تفاصيل جديدة عن العنف الجنسي (الملحق 9)، تضاف إلى التقرير المريع الذي كانت «هيومان رايتس ووتش» قدمته عن الموضوع منتصف حزيران (يونيو) الماضي. وفي ما يبدو أنها رسالة موجهة لمن يهمه الأمر، تكلم بشار الأسد على أن «الأزمة» استندت إلى «الطرح الطائفي». قبل يوم واحد من المقابلة كان تمرين عملي على «الطرح الطائفي» شهدته ضاحية جرمانا الدمشقية، ذات الأكثرية الدرزية، موقعاً عشرات الضحايا. وقبله بأسابيع، كان مقدراً لتمرين آخر أن يفجر لبنان، لولا أن ميشال سماحة، الخبير المتمرس في مؤامرات «القاعدة» ومخططاتها، انكشف في اللحظات الأخيرة.