في الفنون والآداب هناك المدرسة الواقعية، وأخيراً جاءنا تلفزيون الواقع، والواقع كلمة سمعناها كثيراً في مداخلات غالباً ما يقولها أناس غير واقعيين يحاولون إقناع الناس بأن آراءهم يمكن أن تغيّر في واقع الأشياء. في المعيشة اليومية هناك أناس واقعيون، أناس بسطاء محدودو التعليم، وربما لم ينطقوا طوال حياتهم كلمة «في الواقع»، لكن ممارستهم للحياة، وتطبيقهم لأساليب معيشية، ينبئان عن فطرة سليمة، وتعايش سلمي مع الواقع، وبعد نظر يكون في أحيان كثيرة غير مقصود ويأتي في إطار التوفيق من رب العالمين، أو بركة الرزق، أو رضا الوالدين، أو حتى نتيجة حتمية لسماحة أنفسهم، وبساطة تعاملهم مع الحياة، أو كما أعتقد شخصياً إهانتهم للدنيا بدلاً من جعلها تهينهم. بأمثلة بسيطة، تجد رجلين محدودي الدخل، غالباً كلاهما موظف مدني أو عسكري في رتبة دنيا، أو موظف أهلي صغير، الأول يعيش في دوامة اقتصادية لا منتهية كونه يلبس ثوباً غير ثوبه، مسكنه فوق طاقته بالإيجار فيظل طوال حياته في شقق مستأجرة، ومركبه أيضاً بالإيجار لأنه يفوق قدرته المالية، ويظل معظم فترات حياته يرهن دخله لعقود إيجارات لا ينتهي أي منها بالتملك، وملبسه لامع براق يعجز عن تغطية صدأ سعادته. الثاني، وهو نموذج نصادفه أحياناً، يستعجل السكنى في منزل يمتلكه، منزل صغير «مسلح» في أحد الأحياء الشعبية، فيزيح هَم الإيجار باكراً، وهو يركب سيارة «نصف عمر» لا تكلفه شهرياً شيئاً يذكر، ويلبس نظيفاً لكنه غير «مبهرج»، ويعيش سلماً داخلياً مع نفسه، يساعده على مواجهة ضغوط الزوجة والأطفال الذين غالباً ما يبحثون عن السائد في مجتمعهم حتى لو كان زائفاً. هل تعرفون ما الذي يحدث غالباً، الذي يحدث أن الثاني يصل ويحقق الأهداف أسرع من الأول، فيصيب بعض سعادة الدنيا بتسلسل منطقي، وبالمثال تجده غالباً يصل إلى مرحلة «الفيلا» الخاصة والسيارة العائلية أسرع من صاحبه، وربما تقولون إنه قتّر على نفسه وعياله، مقابل من متّع نفسه وعياله، وأقول إن المتعة هنا نسبية. من عاش بالديون والحيل و«المطامر» هو غالباً تعيس، قلق، عصبي، بل وحتى غير منتمٍ لأي طبقة اقتصادية يستطيع ترتيب أموره تبعاً لها، بينما من عاش ببساطة كان باله أوسع، ومزاجه أسعد، وأحس بكل نقلة اقتصادية حققها في حياته. لا أشك أن الأمور المعيشية تصعب يوماً عن الآخر، لكني أثق بأن بعض ابتسامات محدودي الدخل تنبع من الداخل، وتنبئ عن واقعية يتمناها كثير من الحالمين. [email protected]