لم تعد المجازر اليومية لتستثير ردود الفعل الدولية أو العربية. قال الشهود في داريّا إن أطفالاً ونساء كثيرين بين مئات الضحايا، وإن الجثث حملت آثار ذبح بالسكاكين وتقطيع بالفؤوس، وإن عشرات تلو عشرات من الرجال أُعدموا ميدانياً، واحتاج العالم ثلاثة أيام ليصدّق ويُصدم ويستنكر ثم يطالب ب «تحقيق مستقل» سيرحّب به النظام ليتفنن كالعادة في تضليله. من ريف دمشق الى ريفي ادلب ودير الزور الى مختلف الأرياف، فيما باتت المدن والبلدات جبهات قتال غير محسوم لقوات النظام، أصبحت الاستباحة أكثر شراسة باستخدام الطائرات الحربية ممهدة لغزوات الإبادة المطلقة. تلقّى النظام نصيحة حليفيه الايراني والروسي بأن ثمة وقتاً ضائعاً يمكنه استغلاله بإظهار أقصى الوحشية للانتقام من الشعب، لعل في الانتقام ردعاً كافياً أو سحقاً ماحقاً للثورة عشية التغيير المتوقع في التعامل الدولي مع الأزمة، سواء عبر مهمة الأخضر الابراهيمي أو من خلال تنسيق متصاعد بين الولاياتالمتحدة وحلفائها للعمل خارج مظلة مجلس الأمن. سبق للنظام أن جرّب الحسم مراراً ولم ينجح، بل لم يعد متاحاً له أن ينجح. ومهما بذل الحلفاء لشدّ أزره، فإن نهاية مواجهته مع الشعب ليست قريبة، على افتراض أنها متاحة أو ممكنة. صحيح أن الايرانيين صعّدوا متعهدين «حماية النظام»، وطمأنوه الى أن أمنه من أمنهم، لكن ما الذي يستطيعونه عملياً؟ انهم يضاعفون حالياً مشاركتهم المباشرة في أعمال القتل، ويهندسون مدّاً سلساً للأزمة الى لبنان على أن يبدو «حزب الله» كأنه بمنأىً عما يحصل «خارج سيطرته»، ويشرفون على استجابات كريمة من بعض فصائل الحكم العراقي لحاجات النظام، بل يخططون لإرسال قوات برية عبر محافظة الأنبار العراقية، ويطلقون انذارات وتحذيرات لتركيا، ويحاولون اجتذاب مصر الى ما يسمونه «مبادرة ايرانية لا يمكن رفضها» لحل للأزمة... لكن النظام السوري يعرف أن للحليف الايراني مصالح وحدوداً لن يتجاوزها من أجل انقاذه مهما بلغت تعهدات «الحرس الثوري». ثمة ثلاثة أوهام أقنع النظام نفسه بها. الأول أن عسكرة الانتفاضة الشعبية لمصلحته، وهو يعيش الآن نتيجة حساباته الخاطئة، فالعسكرة ثبّتت السعي الى تنحيته. والثاني أنه قادر على حسم الأزمة - «المؤامرة» حين وعد الروس بأن نهاية المتاعب ستكون في حمص، ويعده الايرانيون اليوم بأن النهاية ستكون في حلب. أما الثالث فهو أن تصدير الأزمة الى الخارج سيمكنه وحلفاءه من المساومة ب «التهدئة مقابل بقائه في الحكم»، ولا شيء مضموناً في حسابات مواجهة كهذه، فقد يجني الحلفاء مكاسب، أما النظام فسيكون أول الخاسرين ولن يُمنح أي مكافأة. ومع ذلك، لا يزال النظام يعتقد بأن الهروب الى الخارج يعفيه من التنازلات ومن حتمية التنحي. أما الحساب الواقعي الوحيد الذي لا يزال النظام السوري (وحليفاه الروسي والايراني) يعوّل عليه، فهو تماسك جهازه الأمني على رغم الانشقاقات مقابل الفوضى العارمة في صفوف المعارضة بشقّيها العسكري والسياسي. وعلى رغم أن التفوّق الناري للنظام لم يعد يؤمّن له سوى سيطرة محدودة وصورية، إلا أنه يوفر له إمكان المحاججة بأن لديه القدرة على ضبط الوضع وحصره في الداخل، وبأن عرضه الحوار والتسوية على أساس «الاصلاحات التي بدأها ويمكن تطويرها» يبقى أقل كلفةً من استمرار الأزمة واحتمالات امتدادها الى الاقليم، وكذلك أقل كلفةً من الحرب الأهلية وتسببها بتفكك البلد ومجتمعاته، بل حتى أقل كلفةً من السقوط الوشيك للنظام وما يستتبعه من صراعات بين أطراف المعارضة ستعني سنوات من عدم الاستقرار المرشح للامتداد أيضاً الى دول الجوار. بهذه الذهنية تستعد روسيا للتعامل مع أي مقاربة سياسية جديدة للأزمة، خصوصاً اذا طرح الابراهيمي «عملية انتقالية من دون بشار الاسد». فالنظام يحتاج، لإدارة مساومة كهذه، الى «عملية سياسية» لم تعد متاحة منذ انتهاء مهمة كوفي انان، لذلك فهو يستحثّ ايران لطرح أي مبادرة نحوه تحت مظلة «مجموعة عدم الانحياز»، كما استحثّ روسيا عبر مهمة «المعارض الموالي» قدري جميل التي تعمّدت التلويح بوضع «تنحي الرئيس» في التداول، ولو مشروطاً، ك «تنازل» لإظهار «حسن نية ومرونة» غير متوقعين منه. والسائد حالياً أن روسيا التي انتقدت النظام لأنه لم يبذل جهداً كافياً هي التي طلبت من الاسد وضع تنحيه ك «وديعة» لديها لمنحها هامشاً أكبر للمناورة، فهي مدركة أن الصيغة المطروحة للحوار لا تزال مطابقة ل «اتفاق جنيف»، وفقاً لتفسيرها، أي أن التنحي لا يسبق الحوار بل ربما يأتي كنتيجة له، وهو تفسير لم تقبله ويُستبعد أن تقبله الدول الغربية والعربية اذ تعتبر «اتفاق جنيف» خارج التداول، وأن المطروح الآن هو «انتقال السلطة» بدءاً بتنحي الاسد، وأي صيغة اخرى ستعني تجاهلاً للقمع الدموي وضحاياه وإعفاءً للرئيس من مسؤوليته عن المجازر والتدمير. تريد روسيا من خلال الإيحاء بأنها تملك «ورقة التنحي»، استباق أي اقتراحات سياسية جديدة، وأي مفاجأة من الابراهيمي، أما كيف ستلعبها فهذه قصة اخرى. ذاك أن فسحة التذاكي ضاقت، ثم أن ارتكابات النظام على الأرض تسابق مناوراتها وتكذّب مسبقاً أي ادعاء بالمرونة. لكنها تعتبر أن ثمة رهاناً وعليها أن تخوضه، فالدول الغربية والعربية تخيّر الأسد بين «التنحي التلقائي» وهو غير وارد ولا يناسب مصالح روسيا، وبين «تنحيته الحتمية» وبالقوة، وهي غير ممكنة ولا متاحة لخصومه. لذلك تعتقد موسكو أن المساومة التي يتصورها النظام السوري لا تخلو من الواقعية، خصوصاً أن مراقبتها «أصدقاء الشعب السوري» طوال عام لا تزال تظهرهم مترددين في التدخل، متلكّئين وبطيئي الحركة وغير متحمسين للمبادرة، يقصّرون استثمارهم لتضحيات الشعب السوري على مواقف «أخلاقية» غير مقنعة لأنها أولاً تتعارض مع سوابق «لا أخلاقية» لدول الغرب وبالأخص الولاياتالمتحدة، ولأنها ثانياً أتاحت للنظام ولحلفائه الوقت الكافي للتجذّر في استراتيجية تصعيد نحو مواجهة دولية - اقليمية ربما لم تكن مقبولة لديهم قبل عام. اذاً فلا بد من أن يهتمّوا بأي مساومة سياسية تطرح عليهم. ربما لم يعد «أصدقاء الشعب السوري» على الحال التي تراها موسكو التي باتت متوجسة من بنائهم صيغة تدخل خارج مجلس الأمن. صحيح أنهم أخطأوا في التباطؤ حتى لو كانت لديهم اعتبارات موضوعية حالت دون وثوقهم بمعارضة لا يعرفونها ولم تكن لهم يد في صنعها، وأخطأوا أكثر في مغازلة «حل سياسي بقيادة النظام»، على رغم أنه برهن لهم مراراً استهزاءه بحل كهذا، إلا أنهم انتظروا تدهور مهمة كوفي انان كي يفهموا، وعندئذ فقط بدأوا اتصالاتهم ب «الجيش السوري الحرّ»، أي بعد مرور نحو عام على بداية الانشقاقات، ليجدوا أن التردد والإهمال والخذلان جعلت من هذا الجيش «جيوشاً» يتدبّر كل منها أمره كيفما استطاع معوّلاً على جرعات دعم ضئيل لا تساعده بمجموعها على اقامة أي توازن مع النظام وحلفائه الملتزمين. ومع ذلك استطاع أن يحدث تغييراً في مجرى الأحداث. والأكيد أن «الأصدقاء» تأخروا في استكناه صبر السوريين وصمودهم، وفي فهم دينامية الانتفاضة والمنطق الذي فرضته: إما رحيل الاسد أو إسقاطه، التنحي أو التنحية... ومع كل مجزرة، مع كل دم يُراق، تبتعد احتمالات المساومة أو التسوية التي يحلم بها النظام وحلفاؤه. * كاتب وصحافي لبناني