لماذا لم تنجح التجارب الديموقراطية - على ندرتها - في العالم العربي في نقل تلك الدول من الظلمة إلى النور، ومن الاستبداد إلى الحريات؟ يجيب المفكر هاشم صالح عن هذا السؤال الشائك في كتابه «الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟» بالقول أن تجارب العالم المتقدم برهنت على أن النظام الليبرالي الدستوري كان دوماً يسبق الاستحقاق الديموقراطي وبسنوات طوال. إن وجود الدولة الليبرالية الدستورية يعد شرطاً لا مندوحة عنه من أجل تأمين حق الملكية، وصيانة حق التفكير والتعبير، وضمان حق التدين أو عدمه، وحماية حق تأسيس الجمعيات والتنقل بحرية. إضافة إلى ذلك، يؤدي وجود النظام الليبرالي الدستوري إلى الفصل ما بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإلى الفصل بين الفضاء الديني والسياسي ما يخلق مناخاً من التسامح الديني بين المكونات الدينية. إنكلترا، على سبيل المثال، لم تنضج ديموقراطياً إلا بعد عقود طويلة من تكريس دولة الليبرالية الدستورية، أي دولة الحق والقانون، طيلة القرن ال19. فرنسا، أيضاً، انتظرت قرناً ونصف القرن منذ اشتعال فتيل الثورة الفرنسية حتى تتحول في هدوء إلى دولة ديموقراطية. إذن، فلسفة الديموقراطية - كما يستنتج صالح - كانت تقوم في كلتا الدولتين العريقتين على ضرورة تثقيف الشعب وتنويره ومحو أميته أولاً قبل منحه حق التصويت السياسي. أبانت السياسات الواعية والحكيمة لقيادات تلك الدول المتحضرة عن نجاعتها، لأن التجارب تقول إن الشعب غير الناضج حضارياً سيدفع إلى الأمام بأشخاص عنصريين أو طائفيين وباسم الديموقراطية ذاتها، ما قد يشطب ما تحقق مسبقاً من مكاسب دستورية! إن تأصيل القيم الليبرالية داخل المجتمع غالباً ما سيعمل كصمام أمان لحماية المكتسبات الحداثية من الزوال، والحؤول دون سقوط الدولة في مهاوي الطائفية والعنصرية. يسوق صالح في سبيل تدعيم رؤيته عدداً من الوقائع التاريخية. فقبل أكثر من 100 عام، انتخب الشعب النمساوي رجلاً يمينياً متطرفاً عمدة للعاصمة فيينا. آنئذ خشيت النخبة المثقفة، وعلى رأسها فرويد، أن تتسبب الإرادة الشعبية، وباسم الديموقراطية في خنق نسمات الحرية وإطفاء شموع الفكر، فبذلوا ما في وسعهم لإلغاء الانتخابات، فكان لهم ما أرادوا. وفي أواخر العشرينات من القرن الماضي، جعل الألمان المنهكين سياسياً واقتصادياً عناج أمرهم إلى أدولف هتلر، ذلك القائد الديماغوجي والخطيب المصقع الذي يجيد دغدغة الغرائز التحتية والعصبيات الشوفينية، فكان منه ما تعلمون. عربياً، جرّب العرب الديموقراطية. فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن الشعوب غير المستنيرة حملت إلى القمة رجالاً غارقين في ماضويتهم، موغلين في طائفيتهم، ناقمين على قيم الحداثة، ومعادين للديموقراطية التي رفعتهم عالياً. انظر إلى العراق، مثلاً. لقد جلبت الديموقراطية للعراق بعد حكم الطاغية كل الرزايا والبلايا بتفجيرها للمكبوتات الطائفية القبيحة. ثم انظر إلى ديموقراطية الكويت الحالية التي محت ما كان الفرد الكويتي يحظى به من هوامش حرية، وأسقطت البلاد في وحل الطائفية البغيضة والقبلية القميئة. أكثر من مرة، عبّر الكاتب العراقي خالد القشطيني في مقالاته المنشورة بجريدة «الشرق الأوسط» عن امتعاضه من ديموقراطية العرب المتهالكة التي أبدلت الاستبداد العسكريتاري بالاستبداد الديني. ينحى القشطيني باللائمة على الكثرة الأمية التي منحت أصواتها، جهلاً أو طمعاً أو خوفاً، لجماعات الإسلام السياسي والمعروفة بامتهانها لحقوق الإنسان وعجزها عن مواكبة إيقاع العصر واللحاق بمستجداته. نعم، اتفق مع القشطيني في تشخيصه للداء، ولكني لا أرى الأمية وحدها وراء تعثر التجارب الديموقراطية لدينا وتخبطها. ثم، ألا يمكن للعلم أن يلعب دوره التقويضي كالجهل أيضاً؟ للتدليل، إن أكثر من يعادي الحرية والديموقراطية ويحاربها، ويخاصم قيم الاستنارة والحداثة ويناهضها، هم من نالوا من العلم نصيباً. شخصياً، أنا أؤمن أن العلم، إذا كان تلقينياً، وتعبوياً، ومبرمجاًً، فإنه لا ينتج إلا أفراداً متعصبين ومؤدلجين، وهؤلاء في رأيي أشد خطورة ممن فاتهم قطار العلم! [email protected]