ليس الجيش السوري الحر جيشاً سورياً واحداً، كما أنه ليس الطرف الوحيد الذي يُقاتل الجيش النظامي. في كل بلدة «محررة»، كبيرة أو صغيرة، أكثر من عشر مجموعات تشكلت في ظروف مختلفة وأطلقت كل منها على نفسها اسماً وضمت مجموعة من المقاتلين تتراوح أعدادهم بين خمسة عشر ومئة وخمسين مقاتلاً. هذا الجيش السوري الحر، وهو أيضاً مجموعات ضعيفة التسليح والتنظيم، ولم يتبلور بعد ما يرتكز عليه في تشكيلاته، ذاك أن خبرات الجنود المنشقين لا تنسجم مع المهمة الجديدة المطروحة عليهم، إذ عليهم أن ينتقلوا من كونهم جنوداً في جيش نظامي إلى جنود في جيش أنصار، وهو ما يملي طبيعة عمل مختلفة. ما تشعر به أثناء لقائك قادة وحدات الجيش السوري الحر أنك حيال ميليشيا قيد التشكل. ليست ميليشيا واحدة، إنما ميليشيات مختلفة، بعضها عائلي وبعضها مناطقي، وهي قليلة التنسيق في ما بينها، فيما تجمعها مع بعضها بعضاً روابط أهلية تطغى عليها قيم محلية. فالمهمات أشبه بال «عونة» التي تتضافر فيها الإرادات لإنجاز المهمة وفق منطق «هبوا للمساعدة». وعلى رغم كل ذلك فان الجيش الحر أنجز في ريفي حلب وإدلب، وهو أيضاً يخوض مواجهات لا تخلو من دقة ومن صعوبات. كثير من المواقع العسكرية للجيش النظامي بين المدن والبلدات تم استهدافها من قبل الوحدات غير المنسجمة في الجيش الحر وفق حسابات محلية تتعلق بتحرير حركة السكان في القرى «المحررة» من قيود فرضتها مواقع الجيش النظامي التي ما زالت منتشرة بكثافة في نقاط حساسة من ريفي حلب وإدلب. أول من أمس أقدمت وحدات من بلدات جرجناز وبنش على مهاجمة موقع الجيش النظامي على مدخل بلدة كفرنبل، فسيطرت على الحاجز وغنمت سلاحاً وعتاداً، وأعلنت كفرنبل بلدة محررة. جرى ذلك أيضاً في معظم البلدات والمدن الصغيرة المنتشرة في الريف السوري الشمالي. فالحاجز الذي كان الجيش النظامي أقامه على مدخل مدينة سراقب لجهة أوتوستراد حلب -دمشق كان يعيق تواصل السكان مع باقي مدن ريف إدلب وبلداته، وقبل نحو ثلاثة أسابيع هاجمت مجموعات من المدينة الحاجز وسيطرت عليه، لكن المدينة دفعت ثمناً مرتفعاً جراء خطوتها، إذ باشرت مدفعية النظام قصفاً عشوائياً عنيفاً على المدينة أسقط عشرات القتلى والجرحى من أبنائها معظمهم من المدنيين. غالباً ما تُجري المجموعات العسكرية الأهلية هنا حساباتها وفق هذا المنطق، أي تقدير شكل رد الفعل على أي خطوة عسكرية وحجمه وقياس الثمن المتوقع مع ما يمكن أن يتم إنجازه. حتى الآن يبدو في ريفي حلب وإدلب أن هذه المعادلة هي ما يحكم الحركة العسكرية لوحدات الجيش السوري الحر غير المنسجمة والضعيفة التنسيق والتسليح والتنظيم. أي بمعنى آخر، يتقدم الهم الأهلي على الهم العملاني في أدائها، وهنا يبدو أن النظام متفوق فيها، ذاك أنه منقطع عن هذه الحسابات، إذ لا عمق أهلياً له في هذه المناطق، والحساب الوحيد الذي يجريه ليبدي رد فعل على أي فعل هو الطريقة التي يمكن فيها الحد من حركة الجيش الحر، ولا خسائر يمكن أن توقفه حتى لو كانت مقتل العشرات من جنوده. إنه جيش احتلال، ليس بالمعنى القانوني والأخلاقي، إنما بالمعنى العملي. لا حساب يجريه إطلاقاً لسلامة السكان في تحركاته. القصف اليومي على البلدات، هو قصف عشوائي يصيب الناس في منازلهم. عائلة من بنش قتل جميع أفرادها قبل ثلاثة أيام في قذيفة عشوائية، وعائلة من سراقب قبل يومين. القتلى عائلات بأكملها، والناجون في معظم الأحيان أفراد قليلون من هذه العائلات ممن صودف وجودهم في غرفة أخرى من المنزل. لا حساب عسكرياً في القصف، فهذا الأخير فعل عقابي وليس عسكرياً، والمعاقب ليس الجيش الحر الذي غالباً ما لا تصيب القذائف مواقعه ومراكز تجمعه، ومعظم قتلاه سقطوا في المعارك والمواجهات المباشرة. موعدا الإفطار والسحور هما موعدان أكيدان للقصف العشوائي. هذا ما اختبرناه على نحو جلي في أكثر من مدينة وقرية في ريفي حلب وإدلب، وهو أمر يوقظ في السكان ميلاً لمزيد من الاعتقاد بضرورة التمسك بالطقس الرمضاني بصفته زمناً إلهياً اختاره العدو لعقابهم واختاره الله لمنحهم الثواب جراء مكابدتهم الموت خلاله. القذيفة عندما تسقط في موعد الإفطار «هي رسالة من عدونا في ديننا»، وأي شيء أوضح وأبلغ من الرسالة التي تحملها هذه القذيفة في هذا الموعد. إنها لدفع السكان إلى طائفتهم المختلفة عن طائفة القذيفة العدوة، ومن يُطلقها يريدها رسالة لقول هذا الأمر تماماً. وبعد ذلك يتحكم مزاج من يخدم على مربض المدفعية في توزيع أوقات القصف، إذ لا شيء منطقياً يمكن إجراؤه لتحديد المواعيد. ثم إن وجداناً إدلبياً وحلبياً جماعياً أنشأ لغة ومشاعر حيال القذائف وأنواعها وصار من الممكن لعلم نفس الجماعات أن يتولى تفسير العلاقة مع الأصوات التي تحدثها والتوقعات التي يجريها السكان في أجزاء من الثانية تفصل بين انطلاق القذيفة وبين سقوطها على رؤوس السكان. فصوت أزيز القذيفة بعد انطلاقها وقبل سقوطها يعني سماعه أن القذيفة عبرت من فوق الرؤوس وهي متوجهة إلى هدف أبعد، وعلى رغم شعورهم بالنجاة يقول السكان إن هذا الصوت مؤذ ويجرح شيئاً في أجهزتهم العصبية، لكن القذيفة التي لا تحدثه ستسقط على رؤوسهم. في مدينة سراقب قتلت سيدة روسية، هي زوجة طبيب تخصص في روسيا، بقذيفة يقول السكان إنها روسية الصنع وإنهم لم يسمعوا صوت أزيزها فوق رؤوسهم. وهو جيش احتلال ليس فقط بسبب ذلك، ف «الجيش الأسدي» على ما يسميه السكان هنا أقدم على احتلال منشآت زراعية واقتصادية خاصة لم يُشهد لأصحابها أنهم من معارضيه، فقط أجرى حسابات عسكرية وارتأى أن التمركز في هذه المنشآت مفيد لحركته العسكرية، وسرق جنوده المعدات في هذه المنشآت بعد أن حولوها إلى ثكن عسكرية. جرى ذلك في مصانع توضيب الخضروات في كفرنبل وفي معمل ضخم لإنتاج الزيوت في سراقب. وهو أيضاً جيش احتلال لأن السكان يشعرون بذلك على نحو حاسم على رغم أن جنوداً من أبنائهم ما زالوا يخدمون في صفوفه. وعندما تسألهم عن أعدادهم تتولى كل بلدة تخفيض الرقم ثم تقديم تبريرات لجهة توزيعهم على وحدات يصعب فيها الانشقاق. من تبقى من جنود يخدمون فيه من بلدة جرجناز لا يتعدون العشرة ومن كفرنبل الثلاثين ومن مدينة سراقب العشرين. وهؤلاء ليسوا «شبيحة» في عرف السكان، إنهم في أسوأ الأحوال «عواينية»، وهم عاجزون عن الانشقاق. نسبة تتراوح بين الثلاثين والخمسين في المئة من عناصر مجموعات الجيش السوري الحر هم جنود منشقون. لا ضباط في صفوف هذه المجموعات، فأصحاب الرتب يتوجهون فور انشقاقهم إلى تركيا على ما قال قائد مجموعة في بنش. والسكان إذ يتباهون بجنودهم المنشقين يضربون طوقاً من الصمت حول البنية الاجتماعية والأمنية والعسكرية التي كان النظام أنشأها في بلداتهم ومدنهم. القابلية إلى التسامح كبيرة وهي تأخذ شكل الصمت والمواربة حيال الجهاز البشري ل «الدولة السابقة»... إنهم في أسوأ الأحوال «عواينية» وليسوا شبيحة، والوقت ليس للمراجعة. الثورة الآن على موجة أخرى، ومسامحة «أشقائنا من أبناء النظام لا تعني أننا بصددها حيال أبناء العم، فها هي القذيفة تسقط علينا في وقت الإفطار».