منذ بدء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية في أيار (مايو) 2012، برز الجدل حول طبيعة دور ونطاق ولاية رئيس الجمهورية القادم وموقعه على خريطة النظام السياسي الجمهوري منذ تأسيسه الأول في 18 حزيران (يونيو) 1953، وهو جدل تضاعفت وتيرته وتصاعدت أهميته عقب انتهاء الجولة الثانية من تلك الانتخابات، وتحديداً بعد إعلان فوز الدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، بمقعد الرئاسة وتسلّمه سلطاته رسمياً في الأول من تموز (يوليو) 2012. ولا يتناول هذا الجدل سلطات رئيس الجمهورية وحدود اختصاصاته فقط، بل ينفذ إلى ما هو أعم وأشمل، وأزعم أنه أهم من ذلك، وأقصد تحديداً طبيعة النظام السياسي في مرحلة ما بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وإلى أي درجة سيختلف عما سبقه منذ ما بعد ثورة 23 تموز 1952. وتكمن دلالة هذا التساؤل في أكثر من ناحية وعلى أكثر من جبهة، لكن الأهم هو: هل إن أول رئيس مصري منتخب شعبياً في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير هو، كما تؤمن قوى وتيارات فكرية وسياسية مصرية، مجرد الرئيس الخامس للجمهورية منذ إعلانها قبل ما يقرب من ستين سنة، أم أنه، وكما ترى تيارات فكرية وسياسية أخرى، أول رئيس في الجمهورية الثانية في تاريخ مصر؟ وهذا التساؤل ليس كما يراه البعض شكلياً أو لغوياً، بل إنه يذهب إلى الجذور. فالحديث عن الجمهورية الأولى أو الثانية يذهب عادة إلى المثال التاريخي الخاص بفرنسا، والتي شهدت جمهوريتها الأولى عقب ثورتها الكبرى عام 1789، وتعيش الآن في ظل نظام جمهوريتها الخامسة التي يرجع الفضل في إنشائها إلى الجنرال شارل ديغول، والذي كان أول رؤسائها عام 1958. ولكن كلاً من هذه الجمهوريات الخمس في تاريخ فرنسا لم تكن لتسمى باسم رقم مختلف لو كانت جميعاً متشابهة في نظامها السياسي والدستوري والقانوني من جهة توزيع القوة بين سلطات الدولة المختلفة أو من جهة مقدار التوازن أو عدم التوازن الذي تتصف به العلاقة بين هذه السلطات، وليس لمجرد اندلاع حدث مثّل فاصلاً زمنياً بين جمهورية وأخرى أو حتى ثورة أو انتفاضة داخلية أو هزيمة أو تطوراً خارجياً. فقد قام الرئيس ديغول بتغيير طبيعة النظام السياسي الفرنسي ذاته وركائزه ما بين الجمهورية الرابعة والجمهورية الخامسة في شكل أكد تعزيز صلاحيات السلطة التنفيذية في شكل عام وعزز سلطات رئيس الجمهورية على وجه الخصوص، وهو ما برر أن يطلق على الجمهورية الفرنسية تعبير «الجمهورية الخامسة» تمييزاً لها عما سبق. وبناء على ذلك، وبالقياس، مع الإقرار بوجود الفوارق بالطبع، فإن المطروح هنا هو تحديد ما إذا كان الرئيس مرسي هو مجرد الرئيس الخامس في تاريخ النظام الجمهوري في مصر، أم أن الأمر يذهب إلى مدى أبعد من ذلك بحيث يكون هو أيضاً الرئيس الأول في الجمهورية الثانية. ولا شك في أن الوقت مبكر للغاية للحكم على التحولات والنتائج التي قد تترتب عليها، كما أن القول بأن الرئيس مرسي أول رئيس مدني في تاريخ مصر، ليس كافياً وحده وفي حد ذاته لنطلق على رئاسته للجمهورية تعبير «الجمهورية الثانية»، وذلك من دون التقليل في الوقت ذاته من أهمية ذلك الحدث ودلالاته. ولكن المعايير الأهم والأكثر دلالة وعمقاً ستكون حجم أو مقدار التحولات في الأسس الدستورية والقانونية للنظام السياسي المصري وفي وزن وثقل مختلف سلطات الدولة ومكوناتها، وهي أمور كلها من الصعب تصور وضوح الرؤية بالنسبة اليها قبل صوغ الدستور الجديد ومدى قبول مختلف أطياف المشهد السياسي والمجتمعي المصري له وقبوله به. فمن شأن تحولات كهذه أن تحدد وحدها إن كانت معالم النظام السياسي المصري الأساسية قد تغيرت بالفعل وصار يحق لنا التحدث عن جمهورية ثانية، أم أن الأمر سيستمر من حيث الأساسيات. ولكن في أي من الحالتين، وسواء حدث وبرزت «الجمهورية الثانية» أو كان الرئيس الحالي هو الرئيس الخامس للجمهورية المصرية، فإنه، كما أن الفضل في الحالة الفرنسية يرجع إلى ثورة 1789، الثورة الأم، في إلغاء النظام الإمبراطوري، فإنه في الحالة المصرية يجب أن ينسب (الفضل) الى أهله، أي الى ثورة 23 تموز 1952. * كاتب مصري