قبل الانطلاق الى نيويورك، حذرني صديق لم يتستر على استهجانه موضوع رحلتي قائلاً: «تقصد نيويورك لتقصي خطى وورهول؟ حظاً سعيداً فهو هناك في كل مكان، وهو الحاضر الغائب». في الطائرة، قالت الشابة الاميركية الجالسة في المقعد المجاور إن صديقها يُعد أطروحة في تاريخ الفن عن أثر أندي وورهول في لافتات أيار (مايو) 68 الباريسية. وبُث فيلم «مان ان بلاك 3» (اصحاب البزات السود 3) في الرحلة بين ضفتي الاطلسي، وتبين ان التحري صاحب الشعر المستعار في اقبية مترو نيويورك يحمل اسم الفنان الشهير. وتصفحت مجلة، فوجدت اعمالاً لوورهول وأخرى تحتذي به: صور بوب فاقعة الالوان وشعارات مستفزة. وفي شوارع نيويورك، مدينة الفنانين، نجد في المتاجر تذكارات صغيرة. فعلى سبيل المثل، تزين الاكواب والقمصان برسوم صناديق حساء كامبيل. والنمط هذا في رسم السلع ساهم في تربع وورهول على عرش ال «بوب آرت» (الفن الشائع والشعبي). والموزة التي اختارها الفنان الشعبي هذا شعاراً لفرقة الروك «فلفت اندرغراوند» تزين ساعات ماركة «سايكو»، وشفتا مارلين مونرو مطبوعتان على أثواب ماركة «بابي جينز»، فيما عشرات الصور الأيقونية التي تحمل بصمته تزين ثياب ماركة «يونيكلو» اليابانية. وأثر وورهول ماثل في قوارير العطر، والاطباق، والقبعات، والوسائد الصغيرة، وأحذية الرياضة، وغلاف ال «آي فون»، والدفاتر، وصناديق الشوكولا، وأغلفة الكتب، والبرامج التلفزيونية، وعناوين الصحف، والدعايات. وارتقى اسمه صفة، فيقال موقف «وورهولي» وجمالية «وورهولية»، وفكر «وورهولي». ويقع المرء من غير مساعدة دليل على تمثال وورهول الفضي في «يونيون سكوير»، بين تمثال أول رئيس اميركي، جورج واشنطن، وتمثال المهاتما غاندي. تقام ثلاثة معارض مخصصة لوورهول في صيف 2012 وخريفه في نيويورك، و10 معارض في أنحاء الولاياتالمتحدة، و24 في انحاء العالم. وتحمل عناوين مثل «اندي وورهول، العظمة والبؤس» و «لوحات وورهول» و «وورهول و15 دقيقة من الخلود»... ومتحف متروبوليتن الذائع الصيت يخصص له معرضاً بعنوان «نظرة الى وورهول: 60 فناناً و50 سنة»، ويقيم المعرض هذا مقارنة بين أعمال الفنان الراحل والاعمال الفنية واللوحات والافلام والصور الذي خلّف أثره فيها. فهو الفنان الذي طبع العقود الخمسة الماضية بطابعه وصبغته. وأوجه الفنان وورهول كثيرة. فهو رسام اعمال يومية وسائرة وعادية أو كارثية. وتأثر بهذا الجانب من اعماله معاصروه من أمثال الفنان الألماني غيرهارد ريختر وخانس هاكي، وفنانون من الجيل اللاحق منهم جيف كوونس، وداميين هيرست، والصيني آي وي وي... واحتذى بوورهول رسامو لوحات مارلين، وليز تايلور، وماو. والوجه الثاني من اعمال وورهول هو المتلاعب بالهويات والتمثيلات الجنسية. وتأثرت بهذا الجانب سلسلة من المصورين منهم ريتشارد افيدون وروبرت مابلثورب. ومستهلك الصورة وقائد التحريف والانتاج والسلسلة هذا عبّد الطريق امام ريتشار برينس وكريستوفر وول. وورهول هو كذلك رافع القيود والنافذ الى وراء الحدود المتعارف عليها، وهو عملاق متلهف للتجارب الجديدة... الفصل الأخير من معرض متحف ميتروبوليت مخصص لما يسميه روزنتال وبراثر «حضور وورهول في كل مكان». ويوم رسم الأخير لوحات تحمل صورة علب حساء كامبيل، وسّع مروحة موضوعات فن البوب. وخلّف بصمته في تصميم زجاجات «كوكا كولا» وسلع أخرى استهلاكية، وفي اللوحات المؤلفة من صور صحافية، فارتقى الرسام رمز اميركا الناجحة والمهيمنة. وقَلَبَ وورهول معايير الفن رأساً على عقب. فعلى خلاف الحسبان الشائع ان اللوحات يفترض ان تكون فريدة ومرسومة رسم اليد من غير صناعة آلية، انتهج وورهول منذ 1962 فن السلسلة على قماش حريري، وهو نوع من الطباعة الآلية. فالفنان الوورهولي يشرف على العمل، ويختار الألوان، ويحدد الأطر وأبعاد اللوحة. ويضيف بواسطة الريشة لمساته الخاصة. والحق ان وورهول غيّر وجه السلسلة الفنية الاثيرة على قلب مونيه أو ماتيس. فهو أعد 300 لوحة تمثيلية ولوحتين لجاكي كينيدي مستوحاة من 8 صور اعلامية لها، و200 لوحة تصور ماو. فهو شرّع أبواب «الاجتهاد» الفني المغلق منذ ايام ديفيد (تحفة فنية من اعمال مايكل آنجيلو)، على ما يرى الفنان برتران لافييه. وهو عبّد الطريق امام نجوم الفن المعاصر امثال كوونس وهيرست وموراكامي. وبدد وورهول اسطورة الفنان الوحيد المنعزل والناسك التي اشاعتها المدرسة الرومانسية. ويرى بعضهم ان تبديد الأسطورة هو بمثابة جريمة لا تغتفر. وفي استوديو وورهول في 1962، وفي «فاكتوري» (المعمل) في 1964، انصرفت مجموعة من مساعديه الى إعداد اللوحات، وتهيئة المرسام، وطباعة الصور. واستقبل المصنع هذا أولاد اثرياء نيويورك «الضائعين» والمتنقلين بين ثنايا مثلث الحرية الجنسية والمخدرات وموسيقى «الروك اند رول»، وتدخل هؤلاء في اعمال الفنان، وتعاونوا معه. مطلع الستينات، بدأ الاخطبوط الوورهولي يمد أذرعته ويبسط أثره ونفوذه. فهو شبّ على متابعة الشاشتين الصغيرة والكبيرة، ولم يكتفِ برسم نجوم عصره فحسب، والتقط صور كل ما يحيط به، وجمع نحو 60 ألف كليشيه. صار وورهول رسول سينما «الاندرغراوند» (سينما الظل). ومن أفلامه «شلسي غيرلز» و «بلو موفيز» و «لونسوم كاوبويز». وأنجز بالتعاون مع منظم حفلاته، 260 فيلماً. ومن أبرز هذه الافلام شريط يسلط الكاميرا الثابتة طوال 8 ساعات على مبنى «امباير ستايت»، وهو علم من أعلام السينما الراديكالية، وشريط «سليب» (نائم) الذي يسلط العدسة الثابتة طوال 5 ساعات على رجل نائم، و35 دقيقة على وجه شاب في وضع حميم. وحمله هوسه بالصور وتعليبها على أن يطلب من كل مَنْ يدخل معمله الجلوس 3 دقائق امام الكاميرا. فهو صاحب مبدأ توجيه الكاميرا وتركها تعمل طوال ساعات كما لو كانت كاميرا مراقبة، وهو والد تلفزيون الواقع، إذ درج على إجراء مقابلات مع النجوم ومعاملتهم كما لو أنهم من عامة الناس، وإجراء مقابلات مع ناس غفل كما لو أنهم من المشاهير. وأنتج وورهول في الثمانينات برامج تبدو اليوم سابقة لعصرها وحاملة بذور المستقبل. ولم تهب العاصفة الوورهولية على عالم الصورة فحسب، فهو غيّر عالم الصحافة. وأطلق مجلة «انترفيو» (مقابلة) المخصصة للسينما، والموضة، والفن، أو ل «المبدعين وأصحاب الابتكارات على اختلاف الألوان الفنية ومذاهبها»، كما يقول. وغرّد خارج سرب السائد، فتناولت مجلته الاشخاص وليس الموضوعات. فهو والد صحافة ال «بيبول». ولم يقتصر تجديده المجلة على هذا الوجه، بل تعداه الى تغيير طريقة صوغ المقابلة ونبرة الكتابة: وصارت المقابلة اقرب الى المحادثة. فهو لم يحذف نبرتي المُقابِل والمقابَل والاستطرادات، ونقل أصوات تعجب مَنْ يُجري المقابلة مثل «آه» وتمتمة المقابَل. ونهجه هذا جدد عالم الصحافة، ووجهه نحو تناول الجوانب الشخصية. والمتأمل في احوال عالم الانترنت اليوم، لا يسعه سوى تذكر وورهول السبّاق الى إخراج العالم الشخصي من وراء الأبواب المغلقة. ولم يمتد الأخطبوط الوورهولي الى الرسم والتصوير والسينما والصحافة فحسب، بل ولج عالم الموسيقى، ورسم وورهول أغلفة نحو 50 اسطوانة موسيقية نزولاً على طلب شركة كولومبيا في الخمسينات وصولاً الى ألبوم «سميث» في 1987 سنة وفاته. ورسم أغلفة اسطوانات عمالقة الغناء أمثال أريثا فرانكلين، وليزا مينيللي، وجون لينون، والرولينغ ستونز. وتحفته الموسيقية هي «فلفت اندرغراوند» (المخمل السري). ففي 1965، استمع في مقهى «بيزار» النيويوركي الى 4 موسيقيين شباب يؤدون غناء جامداً من غير حركة. وما كان من الرسام- الفنان- المخرج إلا ان جمع موسيقيين في معمله، وتولى ادارة اعمالهم. فأخرج سلسلة عروض ثورية لا تحتمل: خلال الحفلة تتحول اجساد المغنين الى شاشات عرض، وتعلو اصوات حادة. ويرى الموسيقار رودولف بيرغر ان قلة من الاعمال في تاريخ الروك خلّفت اثراً في الاجيال اللاحقة أكثر من «فلفت اندرغراوند». ويلخص بيرغر اسلوب وورهول الموسيقي قائلاً: «يرصد الموسيقيين، ويرعاهم، ويطلب منهم التصور الى جانب عارضة ازياء ألمانية لا تجيد الغناء، ويدعو مهندس الصوت الى عدم تشذيب الخلل الصوتي، ويبتكر لهم «لوغو» (شعار) غريباً- على غرار شعار الموزة الشهير - ... فهو ينطلق من النقطة الصفر في الانتاج الموسيقي ويلتزم الحد الأدنى منه... وتأتي النتيجة خلابة». أندي وورهول أدمن العمل من غير كلل، وكان متعطشاً للمعرفة يترقب حياة الليل لتغذية خياله. هو الصبي اليافع الذي يخفي فضوله المَرَضي وراء نظرة متحفظة. * مراسل، عن ملحق «كولتور إي إيدييه» في «لوموند» الفرنسية، 21/7/2012، اعداد منال نحاس