أصبح من شبه المؤكد في العاصمة الأميركية واشنطن، أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون قررت التنحي عن منصبها في حال فاز الرئيس باراك أوباما بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. أوساط كلينتون تتحدث جهاراً عن استهلاك وإجهاد ورغبة في الاستراحة، وعن نية لتأسيس مركز للدراسات السياسية، وتتحدث سراً عن حاجة للابتعاد عن رئيس أمسى سجلُّه مثقلاً بأداء باهت، وذلك للتحضير لتحرك تعبوي يسمح لكلينتون بخوض انتخابات 2016 الرئاسية باندفاع جديد، لا يستنزفه اقتران كلينتون بأوباما بالصورة، أو تبعيتها له بالتوجه. وثمة من يذهب إلى أن انسحاب كلينتون المرتقب من طاقم أوباما، هو أقرب إلى الإقصاء منه للتنحي، مع تفضيل الرئيس إبعاد وزيرة خارجية كان عيّنها أساساً على مضض ضمن إطار استيعاب الخصوم وتعزيز الحكومة بالشخصيات ذات الصدقية. وعلى رغم تركيز القرار داخل السلطة التنفيذية في النظام السياسي للولايات المتحدة بشخص الرئيس، والتأكيد على أن ما دونه في هذه السلطة يدور وفق رغباته، فإن كلينتون شكلت بالتأكيد نموذجاً واضحاً لوزيرة خارجية ذات قدرة ونفوذ، بل كان لها في أكثر من ملف الدور الحاسم. رحيل كلينتون إذاً يُفقِد حكومة أوباما عنصراً مهماً من عناصر قوتها وحضورها عالمياً. والواقع أن الأوساط المقربة منها كانت اشتكت تكراراً من العوائق التي وضعت في درب الوزيرة في الملفات المختلفة، لا سيما من خلال تعيين البيت الأبيض المبعوثين الخاصين المولَجين الملفات الحساسة (من أفغانستان إلى قضية الشرق الأوسط)، خارج إطار التراتبية المعتادة، ما شكَّل في أكثر من حالة تجاوزاً لصلاحية الوزيرة وتضارباً في صياغة القرار. إلا أن البيت الأبيض، بعد الاستفاضة بأسلوب تعيين المبعوثين الخاصين مطلع عهد أوباما، عاد وانكفأ إلى حد ما، مع جنوح الرئيس إلى المزيد من «التروي» في الملفات الخارجية، والتركيز بدلاً منها على الشؤون الداخلية الأكثر إلحاحاً. انكفاء أوباما عن عدد من الملفات الخارجية، وجُلُّها مرتبط بالشرق الأوسط الكبير، جاء في أعقاب مواقف صادرة عنه اتسمت شكلاً بالشمول ونية الإنجاز، قبل أن يتكشف الطابع شبه الارتجالي لها، بدءاً بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني الذي كان أوباما أكد أن إيلاءه الأهمية بل الأولوية سوف يجعل منه سمة ثابتة في سياسته الخارجية، قبل أن يواجه المواقف المعترضة المتحدية من رئيس الوزراء الإسرائيلي، فيتراجع، بل يبالغ في التراجع، ليتخلى فعلياً عن أي دور في هذا الشأن لا يرضي إسرائيل. وكذلك موقف أوباما من التحولات في العالم العربي، فمِن حَذَر ودعوات إلى الإصلاح في مصر، إلى إدراك حتمية سقوط الحليف القديم، فتخلٍّ فوري عنه، وإفراطٍ في التعويض الخطابي، ثم بعض التورط بالملف الليبي، بل التوريط، من وجهة نظر البيت الأبيض، والمورِّطون (بكسر الراء) على رأسهم كلينتون نفسها، وتنفُّسٍ للصعداء بعد انتهاء المهمة وسقوط القذافي ومقتله، ثم مقدار جديد من التوريط اللفظي بملف سوري لا نية للبيت الأبيض لخوض غماره. وفيما يمعن بعض الصحافة العربية في استقراء النيات الفضفاضة للحكومة الأميركية لابتكار شرق أوسط جديد، فإن التوجه الأول لدى حكومة أوباما أضحى فكَّ الارتباط قدر الإمكان مع هذه المنطقة. والإعلان عن «التحول إلى آسيا» شعاراً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، يأتي -جزئياً على الأقل- في إطار تأكيد رغبة ضمنية لدى أوباما في الانسحاب من ملفات عديدة في هذه المنطقة وتفويضها للحلفاء. واضح إذاً، أن شخصية وزير الخارجية الأميركي المقبل ستكون ذات أهمية في تمكين الرئيس من تحقيق هذا التحول. وتتداول مختلف الأوساط في واشنطن اقتناعاً بأن الشخصية الأكثر حظوظاً لتولي وزارة الخارجية بعد تنحي هيلاري كلينتون، هي عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس المرشح الرئاسي الديموقراطي السابق جون كيري. فكيري، الذي تولّى لتوّه أدواراً في السياسة الخارجية، ذو خبرة ونفوذ، وتوجُّهٍ عام موسوم بالواقعية والتأني والسعي إلى توسيع رقعة التواصل حتى مع الخصوم. فهو هنا يلتقي مع القناعات المبدئية للرئيس أوباما، ومن شأنه بالتالي أن يوظّف وزارة الخارجية لمصلحة اختبار أوباما لتصوره المبدئي. ولا شك في أن هذا التصور القائم على الإقرار بالمرجعية النهائية للمنظومة القانونية الدولية، وعلى تجنب التفرد في اتخاذ القرار في الشؤون التي تعني المجتمع الدولي، يتعرض اليوم لامتحان حساس في الشأن السوري، بعدما مكَّنت هذه الأسس روسيا من طرح نفسها كندٍّ مكافئ للولايات المتحدة ومعارض لها، ظاهرياً على الأقل، في الموضوع السوري. والإشارة إلى ظاهرية محتملة في التعارض بين موقفي موسكووواشنطن، هي لاتهام بعضهم (داخل الحكومة كما خارجها) للرئيس أوباما بالاختباء خلف الموقف الروسي، والذي يكتسب بالتالي حجماً مصطنعاً، لتبرير غياب الحزم في الملف السوري. وكانت لكيري جولات مع النظام السوري، ومن شأنه بالتالي المساهمة في إيجاد الصيغة الكفيلة بالحفاظ على اعتبارات موقف أوباما، المبدئية والعملية، في صياغته للتصورات. ورغم ترجيح أسهم كيري لتولي المنصب، إلا أن في أوساط أوباما من يطرح قراءة مختلفة تتحدث عن حاجة الرئيس إلى شخصية من طراز هيلاري كلينتون، لما تقدمه من رؤى مختلفة تضع أمام الرئيس خيارات إضافية، له أن يعتمدها أو يهملها. فمواقف كيري المستنسَخة من مواقف أوباما لا تأتي بقيمة مضافة كالتي قد تقدمها شخصية من طراز سوزان رايس، المندوبة الأميركية لدى الأممالمتحدة، بنبرتها الحادة والمبدئية وطروحاتها الحازمة. ولرايس مناصرون عديدون في وزارة الخارجية والبيت الأبيض، فبين كيري ورايس لدى أوباما الخيار، بعد التنحي المرتقب لكلينتون، وفي كلتا الحالتين، ستشهد السياسة الخارجية الأميركية شهوراً طويلة من التباطؤ الذي تفرضه المرحلة الانتقالية.