ليست «تاييس» تحفة في فن الأوبرا، ولا هي كانت تحفة في فن الرواية، قبل أن يقدم جول ماسينيه، الموسيقي الفرنسي، على تحويلها الى أوبرا. فالرواية التي كتبها اناتول فرانس، في لحظة صفاء، وربما في محاولة منه لمحاكاة «اغواء القديس انطونيوس» لزميله ومواطنه غوستاف فلوبير، تعتبر من الأعمال البسيطة التي تتنطّح لمعالجة ما يعتقده صاحبها مشكلات كبيرة وهي ليست كذلك. ومع هذا، ومع ذاك، فإن القراء اعتادوا ان يعطوا للرواية مكانة كبيرة، بل ان منهم من يفضلها - لأسباب غير واضحة - على أعمال أناتول فرانس كافة. كما أن محبي الأوبرا الفرنسية اعتادوا ان يقبلوا على «تاييس» ويتعاملوا معها بحب ولطف، لا سيما حينما تستبد بهم نزعة روحية ويتوقون الى مشاهدة وسماع عمل هادئ غريب بعض الشيء، يخلو من الاندفاعات الدرامية العنيفة، بل حتى من الخبطات المسرحية التي اعتادت، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن تهيمن على فن كان الألماني ريتشارد فاغنر والايطالي جيوزيبي فردي، قد حددا له قواعده الراسخة جاعلين منه فن الصخب التراجيدي بامتياز. جول ماسينيه لم يكن من صنف هذين المعلمين الكبيرين وان كان يشاركهما نزعة رومانطيقية أثيرة. كان فنه الموسيقي أكثر هدوءاً وكان اعتاد أن يختار لأعماله مواضيع تتسم بالشجن وبالتأمل الانساني العميق. وفي هذا الاطار يذكر كثر بالخير رائعته «فرتر» المأخوذة عن رواية غوته الشهيرة. و «تاييس» في سياق عمل ماسينيه، ليست لها قوة «فرتر» ولا حتى غرابة عمله الشهير الآخر «ملك لاهور». هي في الأحرى عمل هادئ ينتمي الى أعمال لماسينيه أوركسترالية أكثر مما ينتمي الى أعماله الشاعرية. ومن هنا، من ناحية موسيقاها الخاصة، يضعها كاتبو سيرة ماسينيه في صف «مشاهد صورية» و «مشاهد هنغارية» اضافة الى مغناة «السلام والحرية» التي لحنها لتقدم في عام 1868، ناهيك بأوبراته مثل «مانون» و «سندريلا» و «سافو». ولعل ما ميز «تاييس» عن أعمال مشابهة لها في زمنها، هو انه، إذا كانت النصوص الشعرية التي تبنى الأوبرات عليها، اعتادت في ذلك الوقت أن تكون أقرب الى الشعر المقفى والموزون والموقّع، الذي كان الناس يقبلون عليه بشغف، واشتهر بأنه غالباً ما كان يحمل موسيقاه في بنيته الشكلية نفسها، فإن «تاييس» كما كتبها لوي غاليه، انطلاقاً من رواية اناتول فرانس، أتت منتمية الى الشعر الحر المنثور، الذي عرف في ذلك الحين ب «الشعر الأبيض» - وهو تعبير يختلف عن تعبير «شعر البياض» الذي «ابتكره» شعراء ربع الساعة العربية الأخير، والذي لا يعني شيئاً على الاطلاق، بل مجرد غلبة اللون الأبيض على الصفحة أي خلوها من الشعر! لكن هذا ليس موضوعنا هنا بالطبع -. المهم هنا هو أن غاليه صاغ رواية اناتول فرانس صياغة شعرية حرة، ما أعطى جول ماسينيه حرية قصوى في التلحين، وجعل الموسيقى غير متولدة هنا عن موسيقى اللغة والحروف والأوزان، ومن هنا ما يقال دائماً من ان هذا العمل بالذات قد يكون أطرف وأجمل ان قدّم من دون كلام أو أغنيات، كمجرد موسيقى أوركسترالية. وتاييس التي تحمل الرواية والأوبرا اسمها، هي غانية من غواني الاسكندرية في مصر الرومانية خلال القرن الميلادي الرابع، عادت وتابت ذات لحظة من حياتها. ولتقديم حكاية توبة تاييس هذه عن المجون الذي كانت تعيش فيه، قسم ماسينيه الأحداث الى ثلاثة فصول، يتألف أولها من مشهدين لكل منهما، في ما يستغرق الثالث ثلاثة مشاهد. وهذا التقسيم يكاد يشبه تقسيم الرواية نفسها. اضافة الى ان الأوبرا تبدل بعض الشيء من أسماء الشخصيات، ومنها شخصية البطل وهو الراهب الشاب بافونس الذي يصبح في الأوبرا آتناييل. واتناييل هذا، كان انزوى في دير صحراوي متقشف يعيش زهداً وورعاً بعدما أمضى في الاسكندرية التي كانت مدينة العربدة والفسق في ذلك الحين، شباباً فاسقاً يريد الآن أن يتوب عنه. وفي الاسكندرية كان راهبنا الشاب قد التقى الغانية تاييس وهي في عز نجاحها كراقصة وممثلة. لكنه، إذ أولع بها حقاً، لم يجد اليها سبيلاً، لذلك ها هي صورتها تطارده الآن حتى بعدما تاب ولجأ الى حياة التقشف والورع. وفي بداية الأوبرا، إذ يعود آتناييل من الاسكندرية متعباً منهكاً، يروي لرفاقه في الدير تفاصيل ولعه السابق بتاييس، فينصحه الرئيس باليمون بأن ينساها. لكنه، إذ يخلد الى النوم تأتيه رؤية تصور له تاييس وهي ترقص في فجور واغواء. فيرى في ذلك اشارة من الله تدفعه الى محاولة تخليص روح تاييس من دنس جسدها وحياتها. ويقرر ان يقصدها قريباً حتى ينفّذ مشيئة الله هذه. وهو، تنفيذاً لهذه، المشيئة يقصد الاسكندرية في اليوم التالي حيث نراه يدخل بيت صديق له قديم من الموسرين يعرف انه يقيم الليلة في قصره الفاخر حفلة ترقص فيها تاييس التي رافقته لأسبوع كامل ينتهي اليوم. ويدعى آتناييل الى السهرة فتزيّنه فتيات المنزل وتعطّرنه. وحينما تحضر تاييس وتراه تسأل عمن يكون فتخبر بأمره. ويسرع هو الى نصحها بالتوبة لكنها تقول له انها لا تعرف سوى قانون الحب، وتبدأ تقديم الرقصة نفسها التي شاهدها ترقصها في رؤيته فيفزع ويهرول هارباً فيما الآخرون غارقون في مجونهم. الفصل الثاني يبدأ في غرفة تاييس في القصر بعد ليلة المجون. ونرى تاييس متأثرة وهي تنظر الى المرآة مرتعبة مدركة ان الزمن سوف يغدر بها، سائلة عما إذا لم يكن عليها الآن أن تتوب. وفيما تكون غارقة في مخاوفها وأحزانها، يظهر آتناييل عند باب الغرفة ويطلب منها ان تتوب. وإذ تبدو للحظة راضية عن الفكرة، تنتفض فجأة وتقول له انها ستظل غانية الى الأبد وهذا هو قدرها، وفيما يختلط لديها الضحك العاهر بالنحيب، يغادر آتناييل الغرفة حزيناً مهموماً. لكنه لن يذهب بعيداً إذ سنجده في المشهد التالي نائماً على درج بيتها. وإذ تظهر تاييس أمامه تقول له إنها الآن مقتنعة بما يطلب. وبعد سجال وحوار تصحبه تاييس الى صحرائه وسط دهشة الذين اتوا صاخبين معربدين من بيت صديقهما الذي يصرخ بها «لا تتركينا» فيما يكون بيتها عرضة للاحتراق. ويدور الفصل الثالث في الصحراء ثم في أكواخ الزهاد وأخيراً في حديقة الدير. وهو يصف لنا توبة تاييس وحماسة آتناييل لذلك، حتى تبدأ هي بالاحتضار، ويبدأ هو بالشعور بالندم على ما فعل، الى درجة انه يصارح رئيسه بذلك ويقول له انه، حقاً، انقذ روح الغانية لكنه بات عاجزاً، هو، عن أن يطرد من رأسه جمالها وافتتانه بها. وإذ يسمع الآن ان تاييس على وشك الموت يجن ويغادر الى الدير كالمجنون. وهناك في الحديقة تلفظ هي أنفاسها الأخيرة ومن حولها الراهبات ويخرّ هو أمامها لتقول له ان نفسها تعيش الآن سلامها، فيما يعترف هو لها انه لم يعد قادراً على نسيان جمالها وافتتانه بها. وإذ تموت أخيراً، يشعر هو باليأس ويصرخ. من الواضح ان العنصر الأساس في هذا العمل ليس تاييس وتوبتها، بل «اللعنة» و «الاغواء» اللذين حلا بآتناييل. ومع هذا سميت الأوبرا باسم تاييس وتعامل معها الناس على أنها تروي حكاية هذه الغانية التي تابت، أكثر مما تروي حكاية التائب الذي انتهى ضحية الاغواء. ولد ماسينيه عام 1842 ومات في باريس عام 1912، بدأ اهتمامه بالموسيقى بتشجيع من والدته في الحادية عشرة. عاش معظم حياته وعمل في باريس حيث بلغت شهرته الآفاق، وألّف القطع الأوركسترالية والأوبرات، كما كان أستاذاً للموسيقى في أرقى معاهد باريس. ويقال ان هيبته وصلت الى حد أن كبار الموسيقيين الشبان في زمنه، ومنهم ديبوسي، كانوا يضطرون الى التلحين على منواله لنيل جائزة روما الشهيرة. [email protected]