شهداء بعشرات الآلاف أسقطتهم آلة الحرب الليبية، من أجل التحرير، ومن مدن ليبيا وفئاتها الاجتماعية كافة. ثمن باهظ، بلا شك، في مقابل انتزاع الشعب الليبي حريته من براثن الديكتاتورية. فنانون وأدباء شارك أبناؤهم في الحرب، منهم من عاد إلى والديه، ومنهم من قضى في الجبهة، أو فُقِد ليسجّل في عداد من غيّبهم النظام أو دفنهم في مقابر جماعية مجهولة أو حرقهم لتختفي ملامحهم وهيئاتهم. ويبقى الأمل الوحيد في معرفة هوياتهم في تقنية الحمض النووي. لكن هذه التقنية تحتاج إلى خبرات وتجهيزات لا تملكها ليبيا الآن، وإن تعاقدت أخيراً مع شركة أجنبية لهذا الغرض، بحسب الفنان التشكيلي محمود الحاسي الذي يتابع الموضوع منذ فَقَد ابنه في 19 آذار (مارس) 2011، أي يوم حاولت قوات القذافي اكتساح بنغازي برتل عسكري قيل إن طوله بلغ 160 كيلومتراً، ووصل فعلاً إلى مشارف المدينة، لكن تدخل طيران «الناتو» جعله يتقهقر. نسأل الفنان محمود الحاسي عن تعامله مع فقدان ابنه منذ ذلك التاريخ، وإن كان يأمل في عودته حياً، وأثر الغياب في مشروعه التشكيلي واللوحات التي أنجزها خلال الفترة الماضية، فيقول: «غياب ابننا ألم نعيشه يومياً، بل كل ساعة، التفاصيل الصغيرة تحرق». ويخبر: «ذات يوم جمعة أحضرت لي زوجتي طبق «قلاية» للإفطار، ولم أكن قد اشتريت لها من القصاب أي كبدة أو قلب خروف، سألتها: من أين لنا الكبدة والطحال؟ فأجابتني بعينين دامعتين: إنها حصة ابننا من خروف العيد، حفظتها له في الثلاجة، والآن مر وقت طويل وعيد الأضحى على الأبواب، سمِّ باسم الله وكُلْ، وسأظل احتفظ له بحصته من كل خروف نضحي به في كل عيد». مع الحزن... ضد الدعاية ويصر الحاسي على أنه فنان له «رؤية فنية خاصة». لكن الفن ينبع من الوجدان، وآلام الفنان هي آلام ناسه، والفن تعبير عن الحالة الإنسانية... إلا أنه يؤكد أنه لا يسمح لمشاكل وهموم الحياة العائلية أن تتسرب إلى لوحاته، إذ يخشى أن تتحوّل مادة دعائية، كما الكثير من المواد الدعائية التي أنتجها نظام القذافي، وما زالت الثورة تنتجها وإن بحُسن نية: «لم أرسم ابني، ولا أثر لمشاكلي وهمومي في رؤيتي الفنية، ما زلت أرسم البروتريه، وهو مشروعي الفني الأخير، ولعلي من خلال الوجوه التي اختارها للرسم يمكنني أن أضخ أي أحاسيس». وفي طرابلس، قبل بضعة شهور، كان فنان التصوير الفوتوغرافي أحمد السيفاو، يستقبل المعزين بموت ابنه الذي اسلم الروح أخيراً متأثراً بإصابة لحقت به خلال معركة ضد قوات القذافي في منطقة الجبل الغربي. السيفاو متأثر. سحنته، هو أيضاً، جريجة، بل ميتة: «لم أتوقع أن يرحل ابني، كان جريحاً فقط وعلى اتصال بي وبزملائه من الثوار، كان على وشك الانتقال، على رغم إصابته، للمشاركة في تحرير طرابلس في 20 آب (أغسطس) 2011. واليوم يقول السيفاو إن لرحيل ابنه الشهيد تأثيراً كبيراً في صوره: التقط صوراً مجبولة بالحزن، مهما حاولت، هكذا تخرج مني، وأنا لا أقاوم ذلك، أصوّر أمكنة في طرابلس والجبل الغربي عاشت الأحزان، ألتقط الأسى بكثافة، لأجبله بحزني، حتى أتجاوز هذه الأزمة وأستعيد الفرح الذي نسيته». ويضيف: «كل ما أحتاجه الآن هو أن تكون ليبيا حرة فعلاً، وديموقراطية، وأن تؤدي ثورتها، التي قدم ابني وغيره من أبناء الليبيين دماءه من أجلها، أغراضها، وتحقق الأهداف التي تفجرت من أجلها... لن أسمح لأحد، لأي سياسي أو مرتزق أو سمسار أن يسرق دم ابني ودماء الشهداء، سأحارب الجميع بعدستي، سلاح الوحيد». وفي بنغازي، لم يختلف اللقاء مع القاص ورئيس تحرير جريدة «أخبار بنغازي»، سالم العبار، عن اللقاءات مع الفنانين آباء الشهداء. ابنه البكر استشهد في جبهة أجدابيا. وإذا كان العبار توقف منذ مدة عن الكتابة القصصية والنقدية، نتيجة انشغاله وتفرغه للجريدة التي تصدر ثلاث مرات في الأسبوع واستطاعت أن تصمد 15 سنة متوالية، فإنه يؤكد أن ابنه سيكون حاضراً في حياته الإبداعية: «لم أكتب قصصاً منذ مدة، آخر مجموعة قصصية لي بعنوان «اللعبة» صدرت قبل سنوات». الهرّة ويتابع العبار: «الآن المزيد من الذكريات، كل شيء يصبح ذكرى، آخر مرة رأيت ابني كان آتياً من الجبهة لزيارتنا، لكنه ككل شباب بنغازي لم يمكث طويلاً، كان عليه أن يعود إلى ثورته، حتى استشهد... الحزن خيم على البيت، لكننا أيضاً فرحنا بنيله الشهادة». وبنَفَس القاصّ، يخبر العبار عن هرة كان ابنه يربيها ويعتني بها، «تأكل من يده، وفي غيابه تمكث في سريره لا تتحرك، وعندما يعود تقفز فرحاً وتتمرّغ بأعمدة السرير وتتشقلب على المخدة والغطاء... وبعد استشهاده، حزنت مثلنا، افتقدته مثلنا، صارت تدور حول سريره كأنها تبحث عنه، وعزفت عن الأكل، وذات يوم، خرجت من البيت... ولم تعد».