رفضت فرنسا الأسبوع الماضي دخول ثلاث نساء سعوديات إلى أراضيها بعد وصولهن إلى مطار ديغول، وذلك بعد رفضهن خلع النقاب والكشف عن وجوههن لشرطة مراقبة الحدود، وأعادتهن إلى المحطة التي قدموا منها، لمخالفتهن قانوناً بدأ سريانه في فرنسا منذ نيسان (أبريل) 2011. وأثارت هذه الحادثة -مجدداً- جدلاً حول هذه القضية، ونحن حينما نقوم بالتعرض لقضية منع النقاب وحظر ارتدائه وغيرها من قضايا الحريات الدينية والشخصية، نجد أنفسنا أمام مستويين ومسارين من التحليل والمناقشة والنقد لها، الأول: المنطلق من القيم والمفاهيم الغربية الحديثة لقضايا التعددية والتعايش والحريات ومفاهيمها. والثاني: المنطلق من واقع الممارسة للمجتمعات الإسلامية وليس من ناحية المبادئ النظرية المتسامحة. ويرى كثيرون في المجتمعات الغربية أن في الرؤية المتطرفة لقضية النقاب وحظره نوعاً من الخيانة، والتنصل من أهم مبادئ العلمانية المستنيرة، التي تقف موقف الحياد من الأديان وحق ممارسة الناس لها، ولقيم الحداثة والتعددية والتسامح المعيشة في الفضاء الأوروبي للأديان والأفكار كافة، فالقبول والتعايش مع القيم كافة التي قد لا يحترمها الفرد هي أحد المقتضيات الرئيسة لمبدأ التعددية، كما قال أستاذ حقوق الإنسان في كلية بارد في نيويورك ايان بورما: «إن التعايش مع قيم قد لا نشترك مع آخرين في احترامها، يُعَدّ الثمنَ الذي يتعين على من يعيش في مجتمع تعددي أن يقبل بها». ولذلك نجد أن أقسى نقد أو رفض لمثل هذه المواقف المتطرفة الصادرة من أحزاب يمينية متطرفة تجاه الحريات الدينية واستغلال حال «الفوبيا» من الإسلام تأتي من قلب القارة الأوروبية نفسها من وزراء ومسؤولين وبرلمانيين وأحزاب سياسية ومنظمات حقوقية تدافع عن حق وحرية المسلمين في تدينهم بالكيفية التي يرونها، فمثلاً يجري حالياً جدل كبير حول اعتماد حظر النقاب ومنع ارتدائه والشروع في تنفيذه في دولتين هما هولندا وسويسرا، ففي كانون الثاني (يناير) 2012، صوّت مجلس الوزراء الهولندي على قرار يقضي بحظر ارتداء النقاب وإحالة مسوّدة القرار إلى البرلمان لإجازته، ولكن مجلس الدولة وهو أعلى هيئة قضائية استشارية اعترض، وبعد مضي شهر على القرار باعتباره خياراً شخصياً وأنه يتعارض مع مبدأ الحرية الدينية التي تضمنها التشريعات الدولية كافة، وأن مجرد الأحاسيس الذاتية، بعدم الأمان لا توفر أرضية كافية لمنعه وحظره. وفي أيار (مايو) الماضي، وبعد أن تقدمت حكومة مارك توني بالاستقالة، قالت وزيرة الداخلية إليزابيث سبيس: «الآن وبعد أن تقدمت الحكومة باستقالتها، فلن تدمع عيني ولا دمعة واحدة إذا رمى البرلمان بهذا القانون إلى المزبلة»، حتى إن بعض قادة ورجال الشرطة أبدوا رفضهم تطبيقه، معللين ذلك بأن مهمتهم هي في حفظ الأمن وليس هناك مشكلة إذا ما تعلق الأمر بلباس مغطٍّ للوجه. وقد تعرَّض رجال الشرطة لانتقادات حادة من بعض الساسة بأن عليهم الطاعة وتطبيق القانون، ولكن أولويات الشرطة في هولندا لا تحددها الحكومة إلا بشكل جزئي، تاركة المجال لعمداء البلديات، الذين يشرفون على الشرطة، تحديد أولويات عملها بالطريقة والفعالية التي يرونها. وفي سويسرا، صادق البرلمان في أيلول (سبتمبر) 2011 على مسوّدة قرار لمنع النقاب وحظره، وتم رفعه لمجلس الشيوخ للنظر فيه واعتماده، إلا أن أعضاء مجلس المقاطعات في البرلمان السويسري وممثليه، أبدوا في آذار (مارس) الماضي عدم ترحبيهم بالقرار، وهؤلاء المعارضون لمثل هذا القرار قد يكون معظمهم غيرَ راضٍ عن مشهد النساء المنقبات ولكنهم يرون أن كل الأفراد أحرار في اختيارهم الطريقة التي يمارسون بها شعائرهم الدينية والطريقة التي يرتدون بها ملابسهم. ومن هنا، يمكننا تفهم الموقف والبواعث والمنطلقات والقيم القانونية التي تدعو المسار الأول إلى نقد هذه القضية ورفضه لها، أما الانطلاق والتحليل والرفض من ناحية المسار الثاني، فنحن نجد أنفسنا ابتداءً أمام جملة من المواقف الحكومية والرسمية تمارس تطرفاً في فرض أحكام وممارسات معينة، ورفضاً لكثير من الممارسات الدينية للأقليات أو منحهم حقوقهم في مجتمعاتنا، وهو ما قد يكون منسجماً مع مواقف تلك التيارات اليمينية المتطرفة، فعلى سبيل المثال: يتم محلياً إلزام المرأة بتغطية وجهها والإنكار على من تكشفه، وفي أقل الأحوال توجيهها بتغطية وجهها، بناء على الفتوى الرسمية من الناحية التنظيرية، ومن الجهة الرسمية في التنفيذ، وهي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد صرح من قبلُ أحدُ المتحدثين باسم الهيئة بأن «لرجل الهيئة الحق بأمر المرأة بتغطية عينيها إن كانت مثيرة للفتنة». وفي ترجمة لهذا الواقع، وبصورة أخرى، أنقل ما قاله نائب وزير الثقافة والإعلام أثناء معرض الكتاب الدولي الأخير بالعاصمة الرياض، وهو مناسبة ثقافية علمية، بأن ممثلي الهيئة «لن ينكروا على المرأة الكاشفة وجهها من دون شعرها»، فهو يدرك أن الحد الذي يمكنه السيطرة عليه تحت سقف مناسبة ثقافية يشرف عليها، هو التنسيق مع منسوبي تلك الجهة بعدم الإنكار على كشف الوجه لساعات محددة، وأما ظهور شيء من الشعر، فهذا مما لا تمكن السيطرة عليه، ولسنا ها هنا في سياق الحديث عن الحرية الشخصية، بقدر ما نحن نتحدث عن خيار فقهي شرعي يتم التضييق فيه على المرأة حتى من خلال الأخذ والعمل به، ناهيك عن حق الأقليات في ممارسة شعائرها الدينية في أماكن خاصة ومغلقة وبعيدة من الأنظار. فمن يتهمون أوروبا بالتطرف تجاه المسلمين والحد من حرياتهم، عليهم أن يتأملوا وينظروا أولاً في واقع ممارستهم تجاه الآخرين والأقليات والمرأة وحقوقهم، وأن يصفوها بالاسم الذي تستحقه! * كاتب سعودي