مئات الأبنية التي لا تزال على الهيكل بدأت تعج بين ليلة وضحاها بمئات الأسر المهجرة العاجزة عن إيجاد مكان لائق بها بفعل أسعار الإيجارات الباهظة. لا يهم كيف تبدو هذه الأماكن أو ما إذا كانت تصلح لإقامة البشر، فما يهم هنا أن تجد هذه العائلات سقفاً تتلطى به بعد رحلات الشقاء القاسية التي قطعتها نحو المناطق المستقرة. هي أبنية مشوهة وغير آمنة على حياة الأطفال وعرضة لهجمات البرد الشرسة والحرارة العالية. لكنها الحل الوحيد المتبقي لهذه العائلات في ظل النقص الفاضح بأعداد مراكز الإيواء وعجز الدولة والمجتمع عن إيجاد البدائل الإنسانية الملائمة. وكل ما تحتاجه هذه الأماكن هو قطع من أكياس النايلون تغطي بها الشبابيك والأبواب مع صنبور مياه وفتحة في الأرض للصرف الصحي، فتتحول معها إلى مصدر دخل جديد لتجار البناء الذين يعرفون كيف يستغلون الأزمة أيما استغلال مع التظاهر بأن لهم دوافع إنسانية دوماً! الخيار الوحيد نادراً ما تجد عائلة مهجّرة تقيم في شقة على الهيكل من دون مقابل. وفي الحالات التي يمتنع صاحب البناء عن تقاضي الأجرة من العائلة المقيمة في بنائه، فإنه يكلّفها بأمور أخرى لخدمة البناء كالحراسة والتنظيف أو القيام بأعمال إضافية لقاء البقاء فيه. يقول أبو عدنان، وهو مهجّر قدم من ريف حلب إلى دمشق واستقر مع عائلته في شقة على الهيكل: «كنا نبحث عن سقف نختبئ في ظله ونكتفي شر البقاء في الشارع. ولما كنا عاجزين عن دفع مبلغ 25 ألف ليرة سورية (حوالى 150 دولاراً) بدل إيجار لشقة مجهزة، اقترح سمسار العقارات علينا البقاء في شقة على الهيكل لقاء 5 آلاف ليرة سورية شهرياً، على أن يغلق صاحب البناء النوافذ والأبواب ويوصل تمديدات الماء والصرف الصحي». ويتابع: «في الأيام الأولى لانتقالنا إلى هذا المكان، كنا نعتقد أنها مرحلة موقتة ريثما نتدبر أمرنا، وعندما عجزنا عن توفير بديل آخر، وبعد أن رفضت دور الإيواء تقبّلنا بسبب عددنا الكبير، بدأنا نتصرف وكأن إقامتنا في هذا البناء لن تكون إقامة قصيرة كما كنا نأمل». مناطق للبؤس تعج مئات الأبنية في ضواحي دمشق المستقرة نسبياً بأسر مهجرة، كان حظ القليل منها أفضل عندما وفّرت له جمعيات أهلية وكنائس تجهيزات أفضل فيها كالنوافذ البلاستيكية والأطر الخشبية الخاصة بالأبواب وشروط صحية مقبولة نسبياً، لكن النسبة الكبيرة من هذه الأبنية لا تزال في ظروف إنسانية مزرية. فغالبية المناطق التي تقع فيها هذه الأبنية، غير موصولة بشبكات الطرق والماء والكهرباء أو الاتصالات. تقول الدكتورة ثراء، الناشطة مع المهجرين المقيمين في الأبنية غير المكتملة: «الوضع كارثي بامتياز، إذ تفتقر هذه المباني إلى أبسط قواعد السلامة. غالبيتها بلا تهوئة وتعاني من الرطوبة وعرضة لزحف الحشرات والقوارض بسبب انعدام نظام الصرف الصحي فيها. كما أن أوضاع العائلات من الناحية الصحية في تدهور مستمر، خصوصاً الأطفال الذين يتعرضون لإصابات خطيرة نتيجة عدم جاهزية الأبنية للاستخدام البشري». وتضيف: «قبل شهر سقط طفل من الطبقة الثاني وكُسرَتْ قدماه وأضلاع في صدره وهو لا يزال في حالة صحية سيئة. كما أن هناك مسنات لا يقوين على مغادرة هذه الأماكن لعجزهن عن الحركة بسبب أمراض العظام، ولعدم وجود مصاعد». وتتابع: «تزيد من وطأة الأمر، الأوضاعُ المادية البائسة للمهجرين التي تمنعهم من الحصول على الأغذية المناسبة وفيتامينات الأطفال والأدوية الضرورية، وفي حال استمر واقع هذه العائلات على حاله لا يمكن توقّع حجم الأخطار التي قد يتعرضون لها». صحيح أنه لا يمكن المرء أن يتأقلم مع مكان ينتقص من إنسانيته ويضعه في مرتبة اجتماعية أدنى ممن هم حوله. لكن الخوف مما هو أسوأ، والمقصود هنا أن يصبح الشارع «مقراً سكانياً»، بالتالي تمسي الأبنية غير المكتملة ملجأ لا مفرّ منه لآلاف السوريين، على أمل أن تحمل الأيام المقبلة ما يضع حداً لمعاناتهم الممتدة منذ سنوات.