أيعقل أن يُستقبل المفكّر الفرنسي روجيه غارودي، بعد تخبّطه في وحال «التحريفيّة» على الراحات في بيروت، من دون وقفة نقديّة تُذكر؟ أيجوز أن يتسابق المثقّفون إلى الترحيب به «نصيراً للعرب وقضاياهم»، فلا يخطر ببال أحد أن يبحث خلف الواجهة البرّاقة عن مجموعة الالتباسات والأفكار الخطيرة التي ينطوي عليها كتابه «الأساطير المؤسّسة للسياسة الاسرائيليّة»؟ كتاب «رجاء» غارودي الجديد الذي عُرّب بسرعة مذهلة في القاهرةوبيروت، أثار في باريس وعواصم غربيّة أخرى موجة استنكار عارمة. لكنّ ذلك لم يثر تساؤلات المثقّفين العرب، بل زاد من اندفاعهم وحماستهم. وأغرق النقاش تحت ركام من الشعارات والبديهيّات السياسيّة. فصاحب «ماركسيّة القرن العشرين» الذي زار بيروت بدعوة من «المنتدى القومي العربي» ليحيي مجموعة من اللقاءات المفتوحة، ويقوم بجولة في صور وجبيل وطرابلس - مروراً بقانا طبعاً! - وصولاً إلى دمشق، يقدّم نفسه في صورة المضطهد. ويعتبر أنّه شهيد حريّة الرأي، وضحيّة اللوبي الصهيوني، فكتابه «رُجِم» لمجرّد أنّه تجرّأ على ادانة السياسة الاسرائيليّة، وفضح غطرستها. ونحن في حالة العجز والاخفاق والكبت التي نعيش، نصفّق، ونعتبر الكتاب «مشروع انقلاب في الفكر الغربي» (!). لكن ما الجديد الذي يتفرّد غارودي بقوله في معرض انتقاد السياسة الاسرائيليّة وأساطيرها؟ ما الذي يغامر بكشفه كي يكون قصاصه العزل والمحاربة والتجريح؟ هل هو أوّل مفكّر غربي يعرّي الديماغوجيّة الصهيونيّة التي استغلّت كل الحجج التاريخيّة والدينيّة الممكنة لتملّك الأرض العربيّة؟ لعلّ خطورة خطاب غارودي تكمن في استناده إلى حجج حقيقيّة جذّابة (من سيطرة جماعات ضغط متعاطفة مع اسرائيل على الاعلام الغربي، إلى صفاقة تلك الدولة التي تبرّر جرائمها باستغلال الذاكرة اليهوديّة المثخنة، وعقدة الذنب الغربيّة تجاه ال «هولوكوست»...)، كي يمرّر أفكاراً أخرى خطيرة ومشبوهة، بعيدة كلّ البعد عن الصراع العربي الاسرائيلي، ولا ناقة للعرب فيها ولا جمل، بل انّها ترتدّ ضدّهم في معظم الحالات. هذه الأفكار المشبوهة تتعلّق بالمدرسة «التحريفيّة»، مدرسة «قتلة الذاكرة»، بتعبير بيار فيدال ناكيه، الذين يعيدون النظر بجرائم النازيّة، ويقلّلون من شأن المحرقة أو ينكرون وجودها من الأساس! فالمفكّر الفرنسي ينحرف بالنقاش من فضح السياسة الاسرائيليّة إلى طروحات أيديولوجيّة مقيتة، تصبّ في خانة المتعاطفين مع النازيّة، واليمين المتطرّف الذي عاد إلى الظهور في أوروبا بشكل مخيف، والمهاجرون العرب أوّل ضحاياه! كيف نطالب اسرائيل بعدم استغلال ضحايا ال «شوها» لتغطية جرائمها، حين نقلّل بالمقابل من أهميّة «الهولوكوست» ونتحدّث عن «أكاذيب» و«تضخيم»، تحت راية العداء لاسرائيل؟ أما اعادة النظر بال «ستة ملايين ضحيّة»، فيقوم به مؤرّخون متخصّصون منذ سنوات. وال «شوها بيزنيس» ينتقدها مفكّرون محترمون منهم فيدال ناكيه الذي قضى أهله في أوشفيتز. وتوم سيغيف تناول في «المليون السابع» تورّط الصهيونيّة مع النازيّة. وابراهام يهوشفاع سدّد اصبع الاتهام إلى «عبيد الذاكرة» في اسرائيل. ولم يكن يحتاج غارودي إلى التنقيب في مزابل التاريخ، وإلى نشر كتابه، في دار «تحريفيّة» معروفة «La Vieille Taupe» - لا «على نفقته الخاصة»! - كي ينتصر لقضايا العرب. ولا نظنّ أن المثقّفين العرب يحتاجون إلى مثل هذه الهدايا المسمومة.