ليس صعباً على المرء الوصول إلى مطار القاهرة، بل الذهاب من المطار إلى وسط المدينة بسبب الازدحام الخانق الذي يلقي الضوء على بنية تحتية قاصرة. وإذا تجول المرء في بعض المناطق حتى التي تُعتبر راقية كحي الزمالك ومحيط ساحة التحرير، فإنه لا يواجه الازدحام وضباب التلوث فحسب، بل الشوارع الضيقة والمشوّهة بالحفر والتعديات وتراكمات القمامة. أما الأبنية الحديثة والتاريخية فتبدو في غالبيتها كالحة وبائسة لدرجة أنها تذكر ببؤس الأبنية التاريخية في مدينة لايبزغ أيام ألمانياالشرقية السابقة. إن نظرة عامة على أحياء القاهرة العشوائية وطرقها المشوّهة والتعديات المريعة التي طاولت مجاري النيل من خلال المطاعم والمكاتب والأندية التي أقيمت على أطرافها، تعطي انطباعاً بأن المدينة تتوسع في شكل سرطاني إذا صح التعبير وكأن لا حكومة أو سلطات قادرة على وقف تدهورها البيئي والزراعي والعمراني الذي يعتبره الكثيرون عنصر تهديد حقيقي لحياة سكانها وصحتهم ومستقبلهم. تضاعف عدد سكان القاهرة الكبرى أكثر من مرة خلال العقود الأربعة الأخيرة ليقدر بأكثر من 21 مليوناً نهاية العام الماضي في بلد يبلغ عدد سكانه 82 مليون شخص، ما يعني أن المدينة تضم أكثر من ربع سكان مصر التي تبلغ مساحتها مليون كيلومتر مربع، 4 في المئة منها فقط صالحة للزراعة. وقد احتاج التوسع العمراني العشوائي للمدينة إلى التهام الأراضي الزراعية الواقعة على ضفتي النيل. ولم تسلم هذه الأراضي التي شكلت في الماضي سلة المدينة الغذائية وقسماً من صادرات مصر الزراعية حتى من زحف الصناعات الملوّثة للبيئة التي كان بالإمكان إنشاؤها في المناطق الصحراوية المجاورة التي لا تبعد عن القاهرة سوى عشرات الكيلومترات. ومقارنة بالقاهرة فإن سكان العاصمة الألمانية برلين أقل من 4 ملايين نسمة، مع أن عدد سكان ألمانيا يعادل عدد سكان مصر، بينما لا تبلغ مساحتها سوى 357 ألف كيلومتر مربع، أي نحو 36 في المئة فقط من مساحة مصر. وفي وقت تشكل المناطق الخضراء والمياه أكثر من ربع مساحة برلين، فإن نظرة على القاهرة لا تمتع الناظر بمساحات تذكر من هذه المناطق باستثناء مجرى النيل الذي جرى التعدي عليه في شكل مخيف على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران أثناء زيارة قام بها للمدينة. ولعل مقارنة القاهرة بالعاصمة الصينية بكين تعطي صورة أخرى من صور التوسع الفوضوي لعاصمة بلد تعيش الغالبية الساحقة من سكانه على طرفي النيل حيث يقع شريط الأراضي الزراعية الذي وهب مصر الحياة، فعدد سكان العاصمة الصينية بكين أقل من عدد سكان العاصمة المصرية إذ يقدر بأقل من 20.5 مليون نسمة مع أن عدد سكان الصين يتجه نحو 1400 مليون شخص. ومقارنة بالقاهرة فإن بكين التي تعاني التلوث كذلك تتمتع ببنية تحتية مواكبة لتوسع المدينة، إضافة إلى محيط زراعي وصناعي يزود المدينة بحاجاتها اليومية. ويعبر أستاذ جامعي ألماني عاصر تطور المدينتين منذ العقود الثلاثة الماضية عن حزنه لحال القاهرة المتدهورة مقارنة بحال بكين التي تتحسن باتجاه مستويات المدن الأوروبية أو أفضل في مجالات عدة. إن حالة القاهرة التي يُرثى لها في مجال قصور البنية التحتية وتدمير مقومات الحياة المستدامة فيها، مشكلة تعاني منها غالبية العواصم والمدن العربية الكبيرة ولو بدرجات متفاوتة. وعلى سبيل المثال فإن مدناً كالدار البيضاء وعمّان وبيروت ودمشق أضحت مثل القاهرة مسوّرة بمدن الصفيح والفقر المحرومة من خدمات أساسية وحيوية كمياه الشرب والصرف الصحي. إن هذا التطور الذي تشهده المدن العربية منذ أربعة عقود ما كان ليحصل لولا فشل جهود الحكومات العربية في ضبط عملية تخطيط وتنظيم المراكز الحضرية الكبيرة. وفي وقت تستمر معاناة الأرياف من الخدمات التعليمية والأساسية وفرص العمل، فإن مشكلات المدن ستتفاقم بسبب هجرة سكان الريف إليها، إضافة إلى نموها السكاني الذاتي. * كاتب مختص في الشؤون الاقتصادية – برلين