اليوم يسرقك التراب. والتراب قاتل عريق. وتستدعيك المدينة. والمدن، كما الأيدي، تشتهي الأساور وتسرق الخواتم. تستدرجك إلى صدرها وتواريك. تضمك وتختصر عذاباتك. لا أعذار للتأخير. نزفت أيامك جرحاً جرحاً. ونزفت أحبابك نعشاً نعشاً. اختلط رماد السجائر برماد الأحلام. لم يبق غير موعدك الأخير فذهبت. لخسارتك طعم آخر في بلاد أدمنت الخسارات والجنازات. شيء من روح البلاد يذهب معك. لم تكن جنرال طائفتك ولا سيف منطقتك. كنت الصوت الوافد من الينابيع. وكنت صوتاً صارخاً. تكتب وتسأل. تشكو وتحرض. تلوم وتلسع. وكانت أيام الأسبوع تحسد الاثنين على افتتاحياتك. على الحبر المعجون بالقلق. على الأمل يصارع الألم. على الكاتب يحاول رد الموت عن الوطن. يحاول فتح نافذة في بحر الظلم وبحر الظلام. غسان تويني. ما أصعب إرضاء هذا الرجل المتطلب. يريد وطناً والوطن ممنوع. يريد دولة والدولة مستباحة. ويريد الديموقراطية في محيط يعتبرها إثماً وكفراً. يطالب مواطنيه بالتنكر للجزر المظلمة والانتماء إلى رحابة الوطن. إلى الاعتراف المتبادل والشراكة في العيش والحلم. قبل عقود من هبوب الربيع كان غسان تويني يدعو إليه ويراهن على قدومه. كان يطالب بالخروج من غبار المتاحف إلى ضوء الشمس. بطي صفحة الاستبداد وافتتاح عصر الكرامة والحرية. كان يطالب بكسر الأكاذيب التي اعتقلت طويلاً عقول الناس ومخيلات الأطفال. كان يطالب بإسقاط الرقابة ومدرسة الزي الإلزامي الموحد وقاموس التعذيب والمعتقلات. جاء غسان تويني إلى الصحافة من الفلسفة وشكوكها وأسئلتها. ورث «النهار» عن والده جبران، فأخذها إلى العصر وتحدياته. طالبها بأن تخاطب عقل القارئ وأن تخاطب مخيلته أيضاً. صناعة صعبة وراقية. سبق صحافي وعناوين لامعة ولغة أنيقة تنتمي إلى الحاضر. وبرحابة الكبار راح يستقطب المصابين بلعنة الصحافة والكتابة. يستقطب ويمتحن ويحرض. وبرحابة الكبار كان يبتهج بتحول بعض الوافدين نجوماً لصوتهم دوي في الكتابة السياسية وكذلك في الشعر والأدب والفنون ومختلف ميادين الثقافة. قبل الحرب كانت «النهار» صحيفة تحلم في مدينة تحلم. وكان غسان تويني حارس هذا الحلم. كان حاضراً في كل المعارك السياسية والوطنية. وكلما أغرته السياسة بالابتعاد عن موقعه الصحافي كان يستدرك ويرجع. لعنة الحبر أعمق في دمه من لعنة السياسة. رأى غسان تويني نذر الحرب تتجمع. كتب ونبه واحتج. وحين استشرت الحرب وتناسلت كان يخترع الأعذار لتجديد الآمال وتجديد الرهان على الوطن. كان يحاول ويكابر على رغم معرفته أن اغتيال روح المدينة يعني أيضاً اغتيال روح صحفها ونوافذها. كان غسان تويني حالماً كبيراً. وكان دائماً أكبر من صفته ومقعده في البرلمان أو الحكومة أو السفارة. كان مشروعاً متحركاً ونهراً من الأسئلة يسابق الوقت طمعاً في الإجابات. كان مختلفاً تحضر في مقالته ظلال الثقافة الواسعة وانهماكه بالأسئلة الكبرى. الصحافة اليومية مأساة يومية. بعد ساعات قليلة من نزوله إلى الأسواق يهرم العدد الذي سرق ليل العاملين ليولد. لا بد من تكرار اللعبة. من العودة إلى دحرجة الصخرة نفسها. أدمن غسان تويني هذه اللعبة القاتلة. مأساة الصحافي تلازمت مع مأساة الزوج والأب. سرق القدر الابنة ثم الزوجة ثم الابن الأصغر. وتمادت المأساة حين امتدت يد الجريمة لتغتال جبران آملة في اغتيال «النهار» معه. وفي تشييع نجله وقف غسان تويني رافضاً الرد بالحقد والكراهية على من تكلست دماء الاغتيالات تحت أظافرهم. ومذذاك انكفأ الأب للعيش مع من حولهم القدر صوراً قرب سريره. اليوم يسرقه التراب. تخسر المهنة ويخسر الوطن. ونخسر نحن الذين عملنا معه وتعلمنا منه. اليوم تشارك في وداعه أصداء مقالاته وصرخاته من «بدنا ناكل جوعانين» إلى «دعوا شعبي يعيش» من مكتبه في النهار إلى مقر الأممالمتحدة. اليوم تودع المدينة من كان يحلم أن يكون حارسها من المعتدين والمتهورين والمجازفين. تودع دفترها. تودعه لينام بين جبرانين الأول أنهكته لعنة الكتابة والثاني قتلته لعنة الوطن.