كان العرب - على وجه التحديد وعلى الغالب - متفقين في ضبط ساعة المنبه على «توقيت محاكمة»، تلك التي وقف فيها رئيس جمهورية سابق أمام القضاء، وفي حال استثناء، إذ كان ممدداً على كرسي طبي بفعل تراكمات الزمن الرديء، وهو الذي ظل سنوات طوال ينظر للتمدد وللكرسي الأبيض مجرد لقطة عابرة في ذهنية عاشت حياة الترف والرفاهية في أبلغ صورها ومظاهرها، على رغم أن عواطفنا وكالعادة قادتنا في بعض لحظات المشاهدة ودقائق انتظار النطق بالحكم تحت ذريعة المثل الشهير «ارحموا عزيز قوم ذل»، وإن كان هذا المثل مر خجولاً وعَجِلاً على أجواء المحاكمة العاجلة. المحاكمة قادت الرئيس المخلوع حسني مبارك إلى السجن المؤبد، وليس ثمة من حكم يصلح له في هذه الحالة الصحية المتردية أكثر من فُسْحَةِ السجن المؤبد، ومن ثم قادت المحاكمة ذاتها وزير الداخلية السابق حبيب العادلي إلى فسحة أخرى من السجن، بينما رأفت بحال ابني الرئيس ومنحتهما «براءة» لم تكن ولو حلماً لهما، ولم تكن أيضاً في دائرة التوقع والحسبان لأكثر المنتظرين والمتحمسين لفصول وتفاصيل المحاكمة. الصفحة الأكثر إزعاجاً من صفحات الماضي المصري انطوت بغض النظر عما آلت إليه من المؤبد والبراءة، وإن كنت أحسبها عقوبات بمثابة الوجهين للعملة الواحدة، إنما على المتحمس العاقل أن يقف نحو قراءة متوازنة لمستقبل لا يقبل أنصاف الحلول، مادامت ورقة الحل بالكامل لا تزال مطروحة على الطاولة، ومتاحة التناول والتطبيق، فالتجارب المريرة، والأوجاع المتراكمة، وحكاية الغبن، ومسلسل القهر، والسيناريو المتباين الذي عاشته مصر في عهد حكم المسجون مبارك كفيلة بأن تمنح القرار والرأي المقبل انضباطاً ووعياً، وتجبر العقلية المصرية صانعة القرار في أن تكون في حال حضور كلي. حسني مبارك سينتقل إلى السجن المؤبد وإن كان سيذهب - قَبل - إلى العناية المركزة لسوء الحال و«الحالة»، وهنا آن الأوان لكل غاضب وحانق وحاقد على مرحلته أن يحتفل بالنقطة الأخيرة من مشواره الطويل، ويغلق - بأقفال الدنيا - الباب الذي كان يخرج منه، وتطل معه خطابات التهدئة وخطب الوعود وبيع الكلام، لكن السؤال الحاسم جداً والمنتظر في المقبل من الأيام: إلى أي محطة ومساحة سينتقل الشعب المصري ليمارس حياته الطبيعية بعيداً من منغصات الرئاسة وفوضى الصراع على مستقبل حُلم؟ مصر بالفعل تواجه مخاضاً صعباً، ولا يمكن لها أن تحل مشكلاتها بالعقلية نفسها التي أنتجتها على رأي الراحل اينشتاين، ما على المصريين أن ينتبهوا له بالضبط ألا يستنزفوا القدرات والجهود والعضلات في مربع ملاحقة الظلمة والمخطئين، ويواصلوا ضجيج الاختلاف على مسطرة العقاب وطولها وسماكتها؟ ما هم في أمس الحاجة له الاتفاق وتشابك الأيدي لرسم مشروع المستقبل المضيء، والبحث عن قيادة لا تستنزف ثلاثة أرباع العمر قمعاً وظلماً ودفناً للرؤوس لتترك الربع المتبقي في مأساة الترنح وانتظار عقاب لن يسمن ولن يغني من جوع، نحلم بعودة القاهرة ضوءاً لافتاً في قلب كل عربي، ولا أظن ذلك مستحيلاً على من تنازعه وتخالفه في أي شيء إلا على حب العريقة «مصر». [email protected] alialqassmi@