في مقدمة الكتاب يشير الكاتب منذ البداية إلى أن الكتاب لا يهدف إلى كشف أسرار وظيفية مثيرة، أو الاطلاع على وثائق تاريخية لم يسبق نشرها، أو توثيق للمقابلات والاجتماعات التي حضرها. غير أن إعجاب الكاتب الكبير بشخصية الأمير سعود الفيصل وحكمته وحنكته السياسية وثقافته الموسوعية وقدراته التفاوضية، واعتزازه بعلاقته الوثيقة بسموه على مدى ثلاثين عاماً لازمه فيها في حله وترحاله، الذي أفرد له حيزاً خاصاً في الكتاب، هذه العلاقة أدت بالكاتب إلى الكشف عن أحد الاجتماعات الرسمية بين حكومتي المملكة والولاياتالمتحدة الأميركية ليستذكر فيها المرة الأولى التي التقى فيها شخصياً بالأمير سعود الفيصل، ففي سياق حديثه عن أحداث حرب أكتوبر 73م وقطع النفط، وجهود المملكة الديبلوماسية يروي الكاتب: «كنت قائماً بأعمال السفارة بالنيابة حينما وصل إلى واشنطن معالي وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق الشيخ أحمد زكي يماني حاملاً معه رسالة عاجلة للحكومة الأميركية، حضرت الاجتماع الذي تم فيه إبلاغ الرسالة لوزير الخارجية آنذاك ويليام روجرز، كان فحوى الرسالة هو مطالبة الولاياتالمتحدة أن تمتنع عن انتهاج سياسة متحيزة في النزاع العربي الإسرائيلي، وعن تقديم مساعدات غير المحدودة أو المشروطة لإسرائيل لتزيد من غطرستها وتعنتها ورفضها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، واعتبار أن أميركة مسؤولة عن تصحيح هذا الوضع، إذ إن عدم استجابتها لهذه المطالب سيجعلها تتحمل المسؤوليات والتبعات الخطرة التي يمكن أن تنجم عن ذلك، وقد رافق الوزير اليماني في تلك الزيارة الأمير سعود الفيصل، وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية آنذاك، كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أقابل فيها الأمير سعود، أذكر جيداً أنه كان مما استرعى انتباهي هو أن مشاركته في ذلك الاجتماع كانت فاعلة بشكل ملاحظ، إذ كانت له مداخلات وتعليقات قوية ومؤثرة، ولكن والحق أقول لم يخطر على بالي ولو لثوان معدودة، أن هذا الرجل الذي أراه للمرة الأولى والذي لم يكن قد تجاوز الثالثة والثلاثين من عمره، سيصبح بعد ذلك بعامين فقط وزيراً للخارجية، وأنه سيقدر لي بعدها بأعوام لا تزيد على أصابع اليد الواحدة أن أعمل معه لمدة سوف تشارف على الثلاثين عاماً». مجلس الشورى...محطة مهمة مجلس الشورى كان أحد المحطات المهمة في تاريخ الكاتب الذي عاش في وجدانه العديد من المشاعر المتضاربة بين الحزن الذي خالجه وهو يغادر مبنى وزارة الخارجية للمرة الأخيرة، البيت الذي ترعرع فيه أطول فترات حياته، وبين الفرح العارم الذي كان يعتريه باختيار خادم الحرمين الشريفين له كأحد أعضاء المجلس في حلته الجديدة، وربما حبه الطاغي لوالده وتعلقه به ووفائه الدائم له حتى بعد وفاته بزمن طويل، كانت أحد أسباب هذا الشعور، إذ يصفه الكاتب «غمرني شعور طاغ بأن ترشيحي لمجلس الشورى لم يكن تقديراً لشخصي بقدر ما كان تكريماً لوالدي، يرحمه الله، الذي كان عضواً في مجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، وبأنه لو كان حياً يرزق في تلك اللحظات لبات سعيداً وفخوراً بابنه الذي أحيا ذكراه وسار على نهجه وخطاه» ليستطرد الكاتب بعد ذلك في الحديث عن تفاصيل هذه التجربة الفريدة من نوعها بخاصة في ظل اتجاه المجلس نحو العمل المؤسسي الذي ينسجم وطبيعة المرحلة. بعد رحلة طويلة مليئة بالمتعة، محفوفة بالمشاق، مفعمة بالإثارة، في سيرة علمية وعملية طويلة حصل فيها الكاتب على أعلى الدرجات العلمية، وتبوأ العديد من المناصب، وتقلد فيها العديد من المهام. شعر الفارس بأوان الترجل، بعد أن اطمأن إلى وصول سفينته إلى بر آمن، ورغبته عيش حياة مطمئنة وسط أسرته بعيداً عن ضغوط الحياة ومسؤوليات العمل. ولم يكن لديبلوماسي طيبة أن يتخذ مثل هذا القرار من دون استئذان عرّابه الأمير سعود الفيصل والحصول على مباركته، بخاصة وأن عضويته في مجلس الشورى لم تلغ ارتباطه الوظيفي في وزارة الخارجية. وكانت المفاجأة إفصاح الأمير سعود له برغبته في تعيينه في منصب مساعد وزير الخارجية بمرتبة وزير، ويصف الكاتب هذا الحدث بعد خروجه من منزل الأمير سعود «وأعجباه! كل ذلك يتم في نصف ساعة، ثلاثون دقيقة فقط تغير مجرى حياتي وتبدله من حال إلى حال ومن وضع إلى وضع وتنقلني إلى أجواء مخالفة تماماً للأجواء التي سبقتها بدقائق معدودة، انحصر كل ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات في حقيقة واحدة لا مناص من التسليم بها، وهي أننا مهما خططنا لحياتنا أو اتخذنا من قرارات بشأن مستقبلنا فإننا نبقى في النهاية محكومين بما قدر الله لنا». وقد أعادني هذا الشعور للكاتب إلى محطته الوظيفية الأولى التي بدأ العمل فيها موظفاً بوزارة الخارجية يافعاً في مكتب صغير مع ثلاثة موظفين بقسم القائمة السوداء لمدة ثلاث سنوات التي يصفها. «تلك السنوات الثلاث أتاحت لي فرصة التعرف على صغار الموظفين قبل كبارهم، ومعرفة معاناتهم، وتلمس تطلعاتهم من جهة، ومشاعرهم ونظرتهم لغيرهم من الزملاء وبخاصة كبار الموظفين بمن فيهم السفراء من جهة أخرى، وأكاد أجزم أن تلك الفرصة هي التي جعلتني منذ ذلك الوقت وإلى أن تسنمت أعلى المناصب في الوزارة لا أميز في التعامل بين صغار الموظفين وكبارهم، وأحرص كل الحرص على المساواة بينهم، سواء في أسلوب التخاطب، أو في طريقة التعامل، أو في مستلزمات ومقتضيات التواصل، بل أكاد أكون أكثر تعاطفاً وتفهماً ومراعاة لمشاعر صغار الموظفين من كبارهم». أعقب ذلك تعيين الكاتب الدكتور نزار بن عبيد مدني وزيراً للدولة للشؤون الخارجية ليستعرض بذلك طبيعة وحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه في هذه المرحلة. الحرمان من الحرية ولعل أبلغ وصف لهذه المرحلة ما أشار إليه الكاتب في محطته الثانية عند بداية تقلده للوظيفة الحكومية «أن الحرية بالاستمتاع بأوقات ما بعد الدوام الرسمي، هي الميزة التي أخذت أحرم منها كلما ارتقيت إلى الأعلى في السلم الوظيفي، وكلما زادت المسؤوليات وتراكمت الأعباء والمهمات وتعددت القضايا والمواضيع، وكلما أصبحت الخيوط التي تفصل بين أوقات الدوام، وأوقات خارج الدوام واهية وضعيفة وزالت الفوارق بين عمل النهار ومسؤوليات الليل، وبين متطلبات المكتب وواجبات المنزل». كتاب «ديبلوماسي من طيبة» للدكتور نزار بن عبيد مدني، يمكن وصفه بالإجمال بالباقة التي تحمل في طياتها الوردة الجميلة، والريحة الزكية، ولا تخلو في الوقت نفسه من الأشواك، مع سرد جميل لأحداث وقصص ومواقف طريفة وإنسانية ونظريات سياسية ورؤى فكرية وفلسفية وانطباعات شخصية، صاغها الكاتب في أسلوب أدبي رفيع سهل القراءة، تاركا نفسه على سجيتها لتخط أفكارها وترسم ملامح العمر عبر التذكر والتأمل والتدبر في محطات العمر، وكأني بشخصية الكاتب المستترة تبرز بين السطور بين آن وآخر.