خلال ما يقرب من أربعين سنة، حقق المخرج الجزائري مرزاق علواش نحو اثني عشر فيلماً روائياً طويلاً، ما وضعه في مقدم السينمائيين من مواطنيه بالنسبة الى «غزارة» إنتاجه. فهذا العدد الذي قد يعتبر شحيحاً بالنسبة الى سينمائي يعيش ويعمل منذ سنوات السبعين، يعتبر في الجزائر مأثرة حقيقية تسجّل لصاحبه. ومع هذا، كانت الجزائر، حين بدأ علواش مساره المهني، موعودة بأن تصبح واحداً من البلدان الأكثر إنتاجاً للسينما في هذه المنطقة من العالم. بعد ذلك تراكمت الظروف والهموم الجزائرية لتقلص الإنتاج وتشتت السينمائيين، وتحرم هذا البلد حتى من انتاج الحد الأدنى في بعض السنين. والحال اننا إذا شئنا البحث عن اسباب هذا كله، كما عن تلك الظروف والهموم، سيكون علينا قبل أيّ شيء آخر أن نسبر أغوار سينما مرزاق علواش بالتحديد. فهي سينما كثيراً ما حملت اسئلة الجزائر وأجوبتها، وغالباً على حساب تطوّر صاحبها المهني، هو الذي كان في بعض الأحيان يتخلى طوعاً عن لغته السينمائية لجعل الأرجحية للموضوع والرسالة في الفيلم. من هذه الناحية، غلّب مرزاق علواش الجانب النضالي في رؤيته لبلاده وللعالم من حولها، على جانب الإبداع لديه، لكنه يقول دائماً انه لم يندم على هذا أبداً... وها هو علواش يعود الى المميّز من مساره السينمائي، تحديداً من بوابة مهرجان «كان» الذي كان شهد غير إطلالة له سابقاً. تحمل العودة عنواناً بسيطاً هو «التائب»... غير ان بساطة العنوان لا تنعكس في موضوع الفيلم ولا في لغته السينمائية، وإن انعكست الى حدّ ما في تعبيره عن شيء أساسي من واقع الحياة الجزائرية المعاصرة. ولعل المصادفة جعلت هذا الفيلم يأتي في وقت يشهد التطرف الأصولي نكسة في مهده الجزائريّ... ما يعطي الفيلم قيمة اضافية قد لا يحتاج اليها كثيراً، لأنه يحمل قيمته في داخله ليُعتبر عودة من علواش الى تجديداته والى فنيّة التعبير عن همومه الاجتماعية، وكذلك تمكنّه الفذ من إدارة ممثليه. إن تأملاً هادئاً في الفيلم قد يقود الى شيء من التروّي في نظرتنا اليه. قد نرى في بعض المشاهد حشواً وفي بعض السياقات إقحاماً لأفكار قد لا تتحملها، ولبعض العلاقات قليلاً من المبررات التي تساندها. لكن هذا كله يبقى ثانوياً أمام جرأة هذا الفيلم ومن الناحية الفنية ايضاً. غير ان الأهم هنا هو الموضوع، فمن يعرف شيئاً عن أوضاع الجزائر سيفهم بسرعة ان عنوان الفيلم يحيل الى قانون الوئام المدني الذي فرض على المجتمع بعد سنوات الإرهاب المريعة، تفاهماً يقضي بأن يُغفر للمسلحين التائبين ما اقترفوه إن ألقوا سلاحهم وعادوا الى أحضان المجتمع... وهؤلاء سمّوا التائبين. وما بطل فيلم علواش سوى واحد منهم يقدّم الينا عائداً لينخرط في المجتمع ويجد عملاً بمساعدة البوليس، حالقاً لحيته ومستعيداً إشراقة حياته. لكن حكاية هذا التائب هي جزء من الفيلم، أما الجزء الآخر فمحوره صيدلي يعيش وحيداً غارقاً في الحزن والخمر، إلى أن يتصل به التائب يوماً في شكل غامض، نفهم بالتدريج من خلاله ان الصيدلي كان منذ سنوات انفصل عن زوجته بعدما فقدا ابنتهما الوحيدة. أما ما يعرضه التائب على الصيدلي فهو ان يقوده وزوجته الى حيث قبر الطفلة. في البداية لا يكون هذا كله واضحاً، سيتضح اكثر خلال رحلة بالسيارة تقود التائب والمطلَّقين الى حيث القبر. هي رحلة شبه صامتة وطويلة لعل من الممكن القول انها تحمل عبر الثلاثة القائمين بها والمأساة المشتركة، آلام التاريخ الجزائري الحديث كله. هي رحلة المسكوت عنه اكثر مما هي رحلة ما يتم تبادله، سواء كان حديثاً أم كراهية أم خوفاً أم تمزقاً. هنا قد تكون للمرء مآخذ كثيرة على الفيلم، لا سيما منها ما يتعلق بالإيقاع، غير ان ما يشفع هو ان «التائب» قدّم واحدة من اقوى المحاولات السينمائية الجزائرية لقول ما حدث، والتعبير عن ماضٍ لعلّ أخطر ما فيه انه لا يريد، بعد، ان يمضي. وحسبنا لإدراك ذلك ان ننتظر المشهد الأخير الذي قد يكون في حد ذاته جواباً فصيحاً عن «فرحة» فشل الأصوليين في الانتخابات الأخيرة.