لا يعني انتشار الكتاب وازدياد مبيعاته أنه مهم على صعيد الأدب والكتابة، ولا يعني توالي طبعاته بالضرورة أنه سيصبح علامة أساسية في المنجز الثقافي للعصر الذي ولد فيه. فالانتشار أمر تتحكم فيه علاقات السوق بالأساس، وأشياء أخرى عديدة مثل الإعلام والدعاية المستمرة وحديث المشاهير عن الكتاب، ووجود بعض الإثارة التي تضمن للكتاب انتشاراً سهلاً. تلك بعض الأسباب التي تصنع ظاهرة الأكثر مبيعاً، والأكثر انتشاراً، أو البيست سيلر، في عالم الأعمال الأدبية والفنية. وقد عرفت صناعة النشر في العالم، وخصوصاً في عواصم النشر الكبرى مثل لندن وباريس ونيويورك، كيف تجعل هذه الظاهرة تدر أرباحاً هائلة عليها، ما جعل صناعة الكتاب من بين الأنشطة التجارية التي تمثل قطاعاً اقتصادياً ضخماً قد لا يقل عن قطاع صناعة السيارات أو السجائر على سبيل المثال لا الحصر. وقد اعتمدت دور النشر تلك على عاملي الإثارة والدعاية الضخمة التي تسبق طرح الكتاب في السوق وتصاحب وجوده بين أيدي القراء، فهي ترسل الكتاب إلى محرري الصفحات الثقافية المتخصصة في الصحف والمجلات، وتنشر الإعلانات في المجلات المعنية بشؤون النشر، وتهدي الكتاب لمقدمي البرامج الثقافية في الإذاعات والمحطات التلفزيونية. كما أنها تعنى بأن يصل الكتاب إلى أيدي بعض المشاهير ليقولوا كلمة عن الكتاب تولد الفضول عند مشاهدي البرامج واسعة الانتشار فيذهبون لشراء الكتاب. ولهذا كان يقال إن كلمة واحدة من إعلامية مثل أوبرا وينفري أهم من آراء جميع النقاد في العالم لينتشر الكتاب ويحقق مبيعات ضخمة. هذا يدل على أن المسألة مرتبطة بعلاقات السوق، والكتاب سلعة مثل غيره من السلع، إذا أحسن ترويجها ضربت أرقاماً قياسية في التوزيع والانتشار، وإذا بخل البائع أو تكاسل، أو افتقد الإمكانات الضخمة للدعاية والتواصل مع وسائل الإعلام، فوّت الفرصة على كتبه في الانتشار والوصول إلى أيدي شرائح واسعة من القراء. يلزم في الوقت ذاته بعض الإثارة في الروايات والأعمال الأدبية، وهي ليست بالضرورة إثارة جنسية أو حسية، بل قد تكون دينية أو تلعب على المعتقدات والعادات والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمعات؛ أو أنها تقترب من بعض المسائل الحساسة في مجتمعات بعينها، سياسية أكانت هذه المسائل أم دينية أم اجتماعية. وقد يكون التركيز على الغيبي والمحجوب وغير المعلوم، كالحديث عن الموت والقيامة، واللاوعي الإنساني والهواجس الداخلية المرعبة، هي ما يمثل الإثارة في الكتاب. ذلك كله سيصب في النهاية في طاحونة ظاهرة البيست سيلر ويجعل الكتاب واسع الانتشار يدر على صاحبه وعلى دار النشر الربح الوفير. لكن هذا النوع من التوزيع ممكن في المجتمعات التي تقرأ، والأسواق الضخمة الواسعة التي تتضافر فيها علاقات السوق المعقدة لتدفع صناعة النشر إلى الأمام. أما في الأسواق العربية فإنه يظل ضعيفاً بسبب ضعف القراءة أولاً، وضعف علاقات السوق ثانياً، ما يجعل ظاهرة الكتاب الأوسع انتشاراً أمراً محدوداً ورمزياً، فعندما يقول كاتب إن كتابه وزع كثيراً فهذا يعني أنه وزع بضعة آلاف من النسخ، أو عشرات الآلاف على أبعد تقدير في عالم عربي يعد أكثر من ثلاثمئة مليون إنسان. ومع هذا فعلينا أن نقر أن ظاهرة البيست سيلر قد انتقلت إلينا وأصبحت بعض الكتب تروج للأسباب التي ذكرتها سابقاً: الإثارة، والقدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام، والناشر الكبير الذي يعتني بالكتاب ويمتلك منافذ توزيع كثيرة تجعل كتابه منتشراً وقريباً من أيدي القراء.