في ملفين على الأقل، فاجأ الاشتراكيون في قصر الإليزيه المغرب، إبان السنوات الأولى لتولي الرئيس الراحل فرانسوا ميتران مقاليد الحكم. وقتها سادت مخاوف بأن باريس قد تلتزم مواقف مغايرة للتيار اليميني الأكثر انفتاحاً على الرباط. كان الجفاف وانحباس الأمطار ألقى بظلال سلبية على اقتصادات المغرب التي تعتمد الزراعة. غير أن الاشتراكيين فتحوا الخزائن الفرنسية والأوروبية وزودوا المغرب بأكبر كميات من القمح بأسعار تفضيلية. أيضاً كان حجم الديون العسكرية على الرباط زاد على المنسوب الطبيعي بالتزامن مع التصعيد الذي عرفته حرب الصحراء، ولم يحل ذلك دون إبرام المزيد من الصفقات العسكرية بين البلدين. وحض فرانسوا ميتران الرباط على التلويح بخيار الشرعية الدولية. عقود مرت على تلك التطورات التي اعتراها تباين ملحوظ في المواقف إزاء تحسين سجل المغرب في احترام حقوق الإنسان، من دون أن تفقد علاقات الصداقة طابع المودة الذي لا يخلو من العتب. فقد جربت الرباط إلغاء احتكار تجارتها الخارجية من طرف فرنسا وراحت تبحث عن شركاء جدد. وجربت الأخيرة كل الصيغ الممكنة لإقامة توازنات في ارتباطاتها وبلدان الشمال الأفريقي، بخاصة بين المغرب والجزائر ولم تتغير أشياء كثيرة في توجهات ذات أبعاد إستراتيجية. مغرب ثمانينات القرن الماضي لم يعد نفسه. لكن هفوات الرباط في سجل حقوق الإنسان تراوح مكانها، بخاصة في قضايا النشر وحرية التعبير وإشكالات التعاطي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، باعتبارها معيار التقدم الحقيقي. والاشتراكيون في قصر الإليزيه من المستبعد أن يتحدثوا بنبرات المعارضة بعدما غيروا مواقعهم. لكنهم ملزمون بتعهدات لا بد أن تشكل في أقل تقدير نقيض سياسة نيكولا ساركوزي، إن لم يكن بدرجة مذهلة فبالقدر الذي يفيد بحدوث تغير ما. في العلاقة بين الدول ثمة مصالح تفرض نفسها. ومنذ عقود انبرى أحد السياسيين الفرنسيين البارزين، لعله شابان ديلماس للتأكيد أن ما يجمع المغرب وفرنسا ليس التاريخ فقط، ولكنه الموقع الجغرافي الذي حتم إطلالتهما على الساحل الأطلسي إلى جانب إسبانيا. كان ذلك بمثابة إيحاء بأن في إمكان هذا المحور الممتد عبر شمال البحر المتوسط وجنوبه أن يشكل فضاء حوار وتعايش. قد يكون ذلك من بين أسباب عدة دفعت الرباط مرة لأن تجرب حظها في طلب الانتساب إلى النادي الأوروبي. كان الأمر أشبه بحلم. غير أن انضمام كل من إسبانيا والبرتغال إلى السوق الأوروبية المشتركة شجع انبعاث الآمال في أن الانتساب إلى الفضاء الأوروبي يتوازى والإفادة من ظروف أحسن على طريق التقدم، ولو أن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تجتازها مكونات عدة في الفضاء الأوروبي، مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا قلبت جوانب في المعادلة. لا يمكن للمغاربة أن يتجاهلوا الدور الفرنسي وحتى الإسباني في منحهم فرصة الإطلال على أوروبا من نافذة شرفة الوضع المتقدم في سياسة الجوار. ولا يمكن للفرنسيين الجدد أن يلغوا جغرافية الامتداد التي تجعل من الشمال الأفريقي متنفساً آخر يتوازى بصورة ما والانفتاح الأفقي على بلدان شرق أوروبا. بديهيات كهذه سيكون لها تأثير إيجابي في مسار العلاقات المغربية -الفرنسية، بصرف النظر عن أي توجهات داخلية تروم التعهدات التي حملت الرئيس فرانسوا هولاند إلى سدة الحكم. غير أن الدول التي تساعد نفسها وتتلمس طريقها، هي ما يفرض على الآخرين مبادلتها حوار الأنداد والشراكة. وإذا كان الفرنسيون أدرى من غيرهم بمشاكل المنطقة المغاربية التي لا تزال تدفع ثمن الشعور الاستعماري في حقبة ماضية. فلا أقل من أن ينتقل الحوار بين فرنسا وشركائها من طابع ثنائي محدود إلى حوار إقليمي أشمل يضطلع ضمنه الاتحاد المغاربي بدور مؤثر إن لم يكن على صعيد تغليب نزعة التكتل الجماعي في إسماع الأصوات المبحوحة، فمن خلال تجاوز العثرات التي لم تمكن دول الشمال الأفريقي في الحظوة بوضع أفضل في علاقاتها والاتحاد الأوروبي. المفارقة في الحوار الإقليمي الذي لم يغادر درجة التعبير عن النيات الحسنة والوعود البراقة، كما حدث في تجربة «الاتحاد من أجل المتوسط» أن البلدان المغاربية تختزل الفضاء الأوروبي في أربع أو خمس عواصم، نتيجة ارتباطات تاريخية واقتصادية. والحال أن فرنسا متزعمة هذه الوصفة تجد نفسها مضطرة لأن تحاور ألمانيا وتتطلع إلى الولاياتالمتحدة الأميركية. ومن سلبيات هذا الحوار غير المتكافئ مغاربياً وأوروبياً أن باريس تدفع أجواء عواصم الضفة الجنوبية للبحر المتوسط أن تمطر أو تصحو على طقس الإليزيه. حان الوقت لاستبدال سياسات قديمة بتطلعات جديدة. ومن غير الوارد تحقيق أهداف كبرى عبر سياسات أقل استيعاباً لمنطق الاعتماد على الذات. والمثل الفرنسي يقول لا بديل أمام من ارتمى إلى موج البحر غير السباحة. ألسنا على أبواب صيف السباحة السياسية؟