أكتب هذا المقال قبل يوم واحد من سفري إلى بيروت لحضور حفل إطلاق تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 والمقرر له يوم 21 تموز (يوليو). ويصدر تقرير هذا العام تحت عنوان: «تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية» وتعقبه كالمعتاد، سلسلة حوارات ينظمها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، الهيئة المشرفة على التقرير، بالتعاون هذه المرة مع مجلة «وجهات نظر» الفكرية التي تصدر من القاهرة. ولأنني أحد المدعوين للمشاركة في أولى جولات هذا الحوار، والتي تعقد في بيروت عقب حفل الإطلاق مباشرة، فقد أتيح لي أن أطلع على تقرير هذا العام قبل أيام محدودة من اليوم المقرر لإطلاقه. ورغم أننا اعتدنا على الجدل الحاد الذي يثيره هذا التقرير منذ صدور مجلده الأول عام 2002، إلا أنني أعتقد أن الجدل الذي سيثيره تقرير هذا العام ستكون له أبعاد أخرى أكثر تنوعاً وتعقيداً، وذلك لأسباب عدة أهمها: 1- موضوع التقرير: فتقرير هذا العام يدور حول مفهوم «الأمن الإنساني» وهو مفهوم ما يزال يثير جدلاً واسعاً في أدبيات العلوم الاجتماعية على الرغم من انتشاره السريع في الآونة الأخيرة، خصوصاً منذ صدور تقرير الأممالمتحدة عام 1994. ورغم حرص التقرير على تخصيص فصل كامل (الفصل الأول) للتعريف بالمفهوم وتطوره ومعانيه المختلفة، والتي تتسع أحياناً لتشمل كل شيء تقريباً وتضيق كثيراً في أحيان أخرى، وعلاقته بالمفاهيم الأخرى واستخداماته في الكتابات العربية، إلا أنه تبنى في النهاية مفهوماً فضفاضاً وغامضاً في الوقت نفسه. فقد عرف التقرير أمن الإنسان بأنه «تحرر الإنسان من التهديدات الشديدة، والمنتشرة والممتدة زمنياً والواسعة النطاق التي تتعرض لها حياته وحريته». وفي تقديرنا أن هذا التعريف سيثير جدلاً واسعاً بين المثقفين العرب خصوصاً وأن التقرير نفسه لم يلتزم به حرفياً في تناوله لقضايا المنطقة العربية وللتحديات المختلفة التي تواجه أمن الإنسان العربي، حيث يبدو انتقائياً في بعض الأحيان وغير متوازن أو حتى غير محايد في أحيان أخرى، سواء عند اختياره لطبيعة المخاطر والتهديدات أو للمنهج المستخدم في ترتيبها. 2- حساسية الكثير من القضايا التي يعالجها: فالتعريف الذي تبناه التقرير والمستمد من التصنيف الذي اعتمده برنامج الأممالمتحدة في تقرير التنمية البشرية لعام 1994، هو الأساس الذي اعتمد عليه لتحديد الأبعاد السبعة التالية لأمن الإنسان: البعد الأول: الأمن الاقتصادي الذي يتهدده الفقر، والبعد الثاني: الأمن الغذائي الذي يتهدده الجوع والمجاعة، والبعد الثالث: الأمن الصحي الذي تتهدده أشكال الأذى والأمراض، والبعد الرابع: الأمن البيئي الذي يتهدده التلوث واختلال التوازنات الأيكولوجية ونضوب الموارد، والبعد الخامس: الأمن الشخصي الذي تتهدده الجريمة والعنف، والبعد السادس: الأمن السياسي الذي يتهدده القمع بكل أشكاله البدنية والمعنوية، والأمن الاجتماعي الذي تتهدده النزاعات الإثنية أو الطائفية وغيرها. وقد تعين على التقرير أن يتناول بالشرح والتحليل هذه القائمة المطولة من التحديات والتي يمكن تصنيفها إلى نوعين رئيسيين، الأول يغلب عليه الطابع الفني ومن ثم لا يثير حساسيات سياسية إلا بشكل ثانوي أو عرضي، والثاني يقع في قلب الجدل السياسي والفكري المحتدم على الساحتين المحلية والعالمية ويثير مشكلات عدة هي بطبيعتها شائكة وتتطلب درجة عالية من الشجاعة والموضوعية والحياد لمعالجتها معالجة نزيهة، وهو ما نجح التقرير في إقناعنا به، كما سنشير فيما بعد. صحيح أن هذا التقرير لا يأتي بجديد حاسم لأن معظم القضايا التي تناولها تم التعرض لها بشكل أو بآخر في التقارير الأربعة السابقة، إلا أن التقارير السابقة كانت تسمح بطبيعتها بمعالجات منفصلة أو جزئية وهو أمر لا بد أن يختلف في تقرير يتناول هذه القضايا من منظور الأمن الإنساني، وهنا تكمن حساسيته وخصويته في آن. 3- الخلاف العلني الذي ظهر بين الباحث أو المؤلف الرئيس، من ناحية، وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، من ناحية أخرى، حول النسخة النهائية. فطبقاً لما نشر في بعض وسائل الإعلام أخيراً على لسان الدكتور مصطفى كامل السيد، يبدو أن النسخة المنشورة تختلف اختلافاً جوهرياً عن النسخة الأخيرة التي سلمها الباحث الرئيسي. وتلك مسألة خطيرة تتطلب أن نتوقف عندها لأنها تضع مصداقية البرنامج الأممي على المحك. في المقدمة التي كتبتها المدير العام لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي السيدة هيلين كلارك تكرار لما سبق أن تضمنته مقدمات كل التقارير السابقة حول «تعمد أن لا تكون هذه التقارير وثائق رسمية صادرة عن الأممالمتحدة أو برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، وألا تعكس وجهات النظر الرسمية لأية من هاتين المنظمتين».. وأن «القصد من ورائها هو إطلاق نقاش دينامي جديد ومعمم يشمل العالم العربي ولا يقتصر عليه بل يذهب إلى أبعد من ذلك». غير أنها بدت هذه المرة وكأنها تريد أن تدفع عن نفسها تهمة حين حرصت على أن تضيف قائلة: «إن بعض وجهات النظر التي عبر عنها محررو هذا التقرير لا يشاركهم إياها برنامج الأممالمتحدة الإنمائي ولا منظمة الأممالمتحدة.»! ولا جدال في أن هذه الصيغة، والتي سمحت لمثقفين مستقلين بالتعبير عن أنفسهم تحت مظلة الأممالمتحدة، هي التي أضفت على التقرير سمته المميزة وجعلته مثار اهتمام كبير من جميع الأطراف: المثقفين والحكومات والمنظمات الدولية الأهلية والحكومية، سواء كانوا من العرب أم من غير العرب. ورغم أننا تعودنا عقب صدور التقارير السابقة على تحفظات أو اعتراضات، أو حتى احتجاجات، يثيرها هذا العضو أو ذاك من فريق الباحثين أو القراء أو المستشارين، وعن ضغوط يقال إنها تمارس في الكواليس من حكومات، عربية أو غير عربية، أو من جهات ممولة، عربية أو غير عربية، إلا أن هذه هي المرة الأولى، في حدود علمنا، التي يتنصل فيها الباحث الرئيسي كلية من مسؤوليته عن النسخة المنشورة من التقرير إلى درجة إعلانه مقاطعة حفل إطلاق التقرير وجولات الحوار المخصصة لمناقشته، وهو أمر لا بد أن يلفت الانتباه وأن يثير تساؤلات كثيرة حول ما إذا كان التقرير قد تحول إلى أداة للتوظيف السياسي من جانب هذا الطرف أو ذاك. إذ يفهم مما نشر في وسائل الإعلام حول هذا الموضوع، وعلى لسان الباحث الرئيسي نفسه، أن تعديلات جوهرية أدخلت على النسخة الأخيرة التي أرسلها للمسؤولين في البرنامج، من دون موافقته أو حتى التشاور معه، شملت: أ- حذف فقرات كاملة في الجزء النظري الذي اشتمل عليه الفصل الأول ب- إعادة ترتيب الفصول وتعمد وضع التهديدات الناجمة عن الاحتلال الأجنبي في الفصل الأخير. ج- حذف الفصل الخاص بمنازعات الهوية في الوطن العربي والاكتفاء بصفحتين فقط عن الموضوع في الفصل الخاص بالدولة وبعرض حالة دراسية واحدة عن هذه المنازعات تتعلق بالحرب الأهلية في دارفور. د- إعادة كتابة المقدمة والخاتمة وبعض فصول التقرير، خصوصاً الفصل الخاص بانعدام الأمن الشخصي. لست معنياً هنا ببحث مدى صحة هذه الاتهامات من عدمه لكنها، إن صحت، تشكك كثيراً في مصداقية برنامج الأممالمتحدة الإنمائي وتحول التقرير إلى أداة للترويج لأفكار توظف لخدمة مصالح دولية كبرى. وعلى أي حال فالكل يتذكر كيف حاولت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش استخدام بعض ما ورد في التقارير السابقة، خصوصاً تلك التي ركزت على تحليل العجز الديموقراطي ونقص الحريات في الوطن العربي لدرجة أن الرئيس الأميركي اقتبس فقرات كاملة منها في إحدى خطبه الرسمية، ثم كيف أن هذه الإدارة نفسها حاولت في مرحلة لاحقة عرقلة صدور التقرير حين بدأ يتحدث باستفاضة عن الدور السلبي الذي مارسه الاحتلال الأميركي للعراق والإسرائيلي لفلسطين وكان أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تعثر التنمية وعرقلة التحول الديموقراطي وتضييق نطاق الحريات في هذه البلدان. وأيا كان الأمر فمن الواضح أن المقام لا يتسع هنا لحديث تفصيلي عن مزايا أو نقائص تقرير هذا العام. غير أنه يمكن القول إن تقريراً يتناول «تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية» لا بد، وبحكم طبيعة الموضوع الذي يتناوله، أن يتمتع مجرد صدوره بميزة أساسية وهي شمولية الرؤية. فالتقرير يقدم وثيقة، بصرف النظر عن تحفظات أو اعتراضات هنا وهناك على بعض ما جاء بها، من شأنها إلقاء الضوء على الحالة العربية العامة بكل تفاصيلها، وفي جميع المجالات. لكن هل جاءت المعالجة للتحديات التي تواجه أمن الإنسان العربي كاملة ودقيقة ومقنعة، وهل تمكن التقرير من الغوص في أسباب هذه التحديات وبين سبل مواجهتها بموضوعية ونزاهة وحياد؟ تلك أسئلة مهمة تحتاج إلى معالجات مستقلة، ربما نعود إليها في مقالات مقبلة. لذا أكتفي هنا بملاحظة أساسية وهي أن التقرير لم يتعرض بما يكفي من الجدية لجدلية العلاقة بين الداخل والخارج في ما يتعلق بالمسؤولية عن الانكشاف الحالي لأمن الإنسان العربي. لا أحد ينكر وجود انقسام عميق بين المثقفين العرب حول هذه النقطة. فهناك من يلقي بالمسؤولية كلها على عوامل خارجية يبحث فيها عن شماعة يعلق عليها قصوراً داخلياً لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه. ولا تعد الحكومات والمؤسسات الرسمية وحدها مسؤولة عن هذا القصور وإنما هو قصور عام تسأل عنه، بالإضافة إلى الحكومات طبعاً، كل المؤسسات غير الرسمية، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني وقطاعات المثقفين وقادة الرأي والفكر. وهناك من يتعمد إغفال العامل الخارجي تماماً ويلقي بالمسؤولية على الأوضاع الداخلية، خصوصاً ما يتعلق منها بغياب الديموقراطية أو بنوعية الثقافة السياسية السائدة، وكأن العامل الخارجي لا وجود ولا تأثير له! غير أن كلا الاقترابين ينطويان، في تقديري، على خطأ فادح وذلك لسبب بسيط وهو أنه يستحيل في الحالة العربية بالذات فصل العوامل الخارجية عن العوامل الداخلية. فلا يوجد نظام إقليمي آخر يشبه النظام العربي في قابليته للاختراق الخارجي لأسباب كثيرة أهمها: الموقع الجيواستراتيجي والنفط وإسرائيل. لذا ليس من الغريب أن نجد أن الكثير من الظواهر السلبية في العالم العربي تبدو غير قابلة للتفسير إلا إذا أدخل العامل الخارجي في الاعتبار، من دون أن يقع مثل هذا التفسير في شرك نظرية المؤامرة. وفي اعتقادي أن تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 أخفق في تشخيص صورة التحديات التي تواجه أمن الإنسان في العالم العربي بكاملها وفي تقصي أسابها الحقيقية أو التعرف على سبل ووسائل علاجها لأنه بدا منحازاً، من دون مبرر موضوعي واضح، لوجهة النظر التي ترجح كفة العوامل الداخلية من دون أن يحاول الغوص بالجدية نفسها في بحث أثر العوامل الخارجية ولم يفعل ذلك إلا على استحياء وعند الضرورة القصوى إلى الدرجة التي بدا معها التقرير وكأنه يتعمد طمس أثر هذه العوامل كلية أو اعتبارها عوامل ثانوية أو عرضية. ولا جدال عندي في أن إقدام التقرير على معالجة التحديات الخاصة بالاحتلال والتدخل العسكري في فصل أخير يسبق الملاحظات الختامية مباشرة يوحي بأن للمسؤولين عن تحريره موقفاً أيديولوجياً مسبقاً من هذه القضية، وهو موقف لا يمكن تبريره علمياً بأي حال من الأحوال. غير أن الأمر لا يقتصر فقط على مسألة الترتيب. فقد غلبت اللغة والصياغات الديبلوماسية على أجزاء كثيرة منه. فالحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة هي بالنسبة الى التقرير مجرد «حملة عسكرية»، والاستنكار العالمي لها سببه مجرد «إفراط في استخدام القوة بصورة غير متوازنة». أما الجدار الفاصل وما يسببه من معاناة هائلة للفلسطينيين، ومفهوم «يهودية» الدولة الإسرائيلية وما قد يفضي إليه من آثار سلبية بعيدة المدى بالنسبة الى مستقبل وأمن فلسطينيي الداخل فلم يحتل في التقرير إلا سطوراّ محدودة. وتلك كلها مظاهر خلل واضح لكنه ليس الخلل الوحيد، فالتقرير ينطوي في الواقع على مظاهر خلل كثيرة وهو ما قد نعود إليه تفصيلاً في مقالات مقبلة. * كاتب مصري