الكنوز تنام قريبة من القبور والكتب والأسفار تتغاوى على الماء، حتى لا تمحو الأسرار، في أي أرضٍ غريبةٍ تغمض لك عينان، وتبيض لك شفتان، قدرك أيها الأسمر مقهى ينام على ضفاف البحر، تتناوبك الأيدي وتتربص بك أصابع، وهي تلف سبابتها بمسابح كهرمانية، تتراقص بضحكات ماكرةٍ، تلك هي ضحكات تجار لؤلؤ ورجال أسفارٍ اعتادوا وجوه الغرباء حتى ألفوها. المقهى الذي بناه غريب أو رجل تاه بين موانئ، وتثاقلت به سفن وبلدان، حلّ في ليلة ماطرةٍ لشتاء قارسٍ وموجع، بنى سقيفته فأسماها مقهى العبيد. المقهى وهو يغسل عتباته بموج البحر، وإشراقةٍ صافية لشمسٍ تتألق في صباحاتها وأشرعةٍ، وسفن تحل وترحل برجال ووجوه تتلون بهم وتتزين كراسي سقيفةٍ، أو سوق لبيع الرقيق، قبل أن تخبَّ بهم الخيل والجمال في صحراء عطشةٍ بعيدة. ولم يكن البحر غير سفرٍ وثرواتٍ تتناقل وتتثاقل بها بنادق رجال غلاظ، تلوح بنادقهم لكل تائهٍ، أو ضلّت به أقداره على شرفات الليل، أو على فنار يكبو بين فينة وأخرى. تلك هي طبائع اعتادتها حملات السفن، وهي ترزح بغنائها أو بحمولاتها وغنائمها باحثة عن يابسة آمنة، أو بيرق يتراخى بهبوبٍ صيفيّ لنسمات عذبةٍ تغري كل غريب. والغرباء ألفوا أو يألفون بنادر البحر، وملوحة الماء، والغرباء كُتب سيرٍ تتناوب كتابة صفحاتها على الموج وتطويها وتلفها، وترميها كتميمةٍ أو وصية قبل غدر البحر أو غدر البنادق. بحارٌ كثيرة عبروها وموانئ غريبة وقفوا بها، نساء وأطفال وشيوخ اعتادوا بكاءها وتوسلاتها المبحوحة، تلك هي طبائع الغلاظ، أو القساة أو النهابة. نهبوا الأطفال من أحضان أمهاتهن، وقتلوا الزوج في حضن زوجته، فطروا قلب الأم على فلذاتها، فرقوا بين الابن وأبيه، رملّوا وسبوا، نهبوا ودفنوا، ورموا من تثاقل بهم البكاء والسعال إلى أسماكٍ موحشة. لم يوجع قلوبهم أو يحننهم قمر ناعس، أو صفاء نجوم، ولم تتردد على أسماعهم توسلات زوجة أو أم ثكلى، من على أسيافٍ ويابسة نائية، حملوا وجوهاً سمراء بعيون صافية، جابوا الشرق والغرب سافروا مراراً وتكرارا، من مومباسا وزنجبار والحبشة، بحثاً عن سمر الوجوه، وعلى مشارف البحر، وفي المقهى الذي سُمي بغنائمهم تتبدل سحناتهم وهم يسومون صبية صغاراً ورجالاً بحبال غليظة، بين أرجل وأيد تنعم بخيرات بحرٍ ويابسة. العبيد وهو يطأون اليابسة بعد غربة وسفر وعيون معصوبة إلا من حسراتها، تاهت عيونهم بين رجالٍ تلهج بلغوٍ، وأكياس مخيطةٍ تتثاقل بها الأيدي بصرير النقود أو الجنيهات والبيزات والآنات، تلك هي تجارة من تاهت مصائرهم وتغرّبت بهم رحالهم إلى أبدية النسيان. فلم يكن غير سفر وصحراء وعطش، وركاب تلهث بقائظةٍ، تبحث عن أفيائها بين سرابٍ وتيه، الغربة والحسرة والألم، وجع لتميمة ربطوها في كتف العبد، وهو يمشي مطأطئاً رأسه، في ميناء يحسبه نومة أو استراحة المتعب، لبيوتٍ لم يألف رائحتها، وأناسها، وهم يحسنون ملبسه ومأكله. لم يألف الدور وهي تظلل لهب الشمس وهواء البحر، تاهتْ به الخطى ورحلتْ مشيته على رمالٍ تبيّض من السبخة والماء، وهو يئنُّ بوجعٍ المكبوت والمغلول بعبودية الجوع وبلبلة اللسان. ولم يكن الميناء الذي ينام على خاصرة البحر، غير قبلة فردوس لجزيرةٍ تنعم في الكتب والأسفار لجنة مبتغاة وخلودٍ سرمدي ونعيم لحضارات وأسلاف، فنامت كنوزهم وأسرارهم وجرارهم وحليهم، في قبورٍ حسبوها طافية على الماء، وخلود أبدي لجنات عدنٍ بين أفياء نخيل وماء. ولم تكن الكنائس أو بيوت العبادة، التي ابتلعها البحر أو غاصت بين جنباته، حتى لم يكن أثرها سوى شذرات، هُرّبت وهربتْ بين أفواه شعراء وملاّحين ورحّالة، مرّوا خفافاً، فتداركهم الخوف والمجهول. حتى من أقاموا هنا، ولم تدركهم خطواتهم، لكنوز داستها أقدامهم، بنوا بيوتهم ومساجدهم على كنائس وأديرة وأسفار وكنوز. تلك هي الكنوز المدفونة لتلال ومدافن تتغاوى بالموج والزبد وهو يغسل الرمل، وتلك هي خطوات العبد وهو يعدو فرحاً بالخلاء والهواء، حتى غاصت رجلاه وسكنه الفزع؛ وبيديه اللتين ابيضتا من العطش، اقتلع حجارة ملساء، لم تأنس أصابعه نعومة صفحتها فنام على خدرها. من تلك البقعة النائية عن البيوت، يُروض صباحاته حتى المغيب، وبمعوله يهدم الدور وبيوت العبادة المطمورة، حتى القبور وهو يمرر عموده بدوي الجِرار وهي تتكسَّر وتتناثر خشوفها الطينية ناثرة رائحة عتيقة مخدرة، وهو يراقب جثثاً وجسوماً تتبخر أمام عينيه، سكنه الفزع، لكن السكينة في المكان، كانت جنته.وكثيراً ما مرّر معوله على حصاة بكتابات ونقوش وحروف، باع حجارةً كثيرة على أسياده، بنوا بيوتهم وعتباتها، ورمى كثيراً من الجِرار والحلي، حتى أزاحت يديه الرمل عن مرمر مزخرف بصورة السيدة العذراء، حاضنة ابنها، فأصابه الخوف والهلع وتعرق جسده. هذه الأسرار والكنوز تتناثر بيد وبمعول عبدٍ منسي، رمته أقداره، وهو يهوي بجدران بيوت ومذابح مقدسة، لتهوي الجدران بسقوفها، وتدفنه رمالها بين جرار وقبور مخلدة بالنسيان. هامش في أوقات أمرّ بمحاذاة المكان نفسه، أو المقهى الذي كان قائماً هنا، لا شيء غير صوت الموج والفراغ ولا أثرَ لمقهى أو قهوة هنا، لضجيج وحياة وازدهار تجارة العبيد؛ المقهى بني في زمن الغوص وتجارته، من حصاة البحر وجريد النخيل وظللَ بسعفها، يأتيه التجار والطواشون من الهند والبصرة وعمان والكويت والبحرين والجزيرة العربية، والطواشون المحليون، وكان المقهى سوقاً مفتوحة للتجارة، وخاصة تجارة العبيد، حيث أسمي بهذا الاسم، يؤتى بالعبيد والعبدات، صغار السن، حيث تزدهر تلك التجارة، فيتم المساومة والبيع حسب الشروط والعرض والطلب.والعبد المذكور هنا «بَروك»، اشتراه أحد تجار اللؤلؤ في دارين، ليخدم ابنته، فيسكن غرفة التمر، آنسا حلاوة الدبس، فلا يقوى على الخدمة، ليطرد ويجد ضالته بين التلال والمدافن والقبور، في استخراج الحصاة بين الحفر، التي لم يعرف هو وأسياده، سرّها وكنوزها، ويلقى حتفه داخل دور وقبور تهاوت سقوفها فدفنته داخلها. * النص من مجموعة بعنوان «البحبوح»، صدرت حديثاً عن دار فضاءات - الأردن.