على رغم أزمة الديون السيادية التي لا تزال قائمة وحال الركود المهيمنة في الكثير من الدول الأعضاء في منطقة اليورو، تتمسك شركات عالمية كثيرة باستثماراتها بل تزيدها. تغض هذه الشركات النظر عن المشكلات والمصاعب الحالية في أوروبا وتراهن على الأرباح في النهاية ناهيك عن اعتمادها على وعود المسؤولين بإنعاش النمو وجذب الاستثمارات الخاصة بعد سنتين من التقشف المضني. وتظهر الثقة المتزايدة التي تبديها الشركات المتعددة الجنسية بعد سنوات كان فيها الاستثمار الأجنبي المباشر في أوروبا متعثّراً، يعرقله نشاط اقتصادي خجول، وضعف في النظام المصرفي في المنطقة، وقلق من مخاوف من أن تتسبب المشكلات بأزمة سيولة ثانية في الأسواق العالمية شبيهة بتلك التي ساهم فيها انهيار مصرف «ليمان براذرز». ففي إرلندا مثلاً، تزيد الشركات المتعددة الجنسية الإنفاق نظراً إلى أن الركود الاقتصادي في هذه الدولة يجعل الإنفاق يعزز تنافسية التكلفة أكثر من أي وقت مضى. فشركة «مايكروسوفت»، مثلاً، استثمرت أخيراً 130 مليون دولار لتوسيع مركز للبيانات خارج دبلن. أما شركة «إلي ليلي» للأدوية، فتخطط لإنفاق 330 مليون يورو لإنشاء مصنع للأدوية البيولوجية قرب كورك سيؤمّن مئات فرص العمل. وتستثمر «جنرال إلكتريك» 30 مليون يورو لتوسيع البحث والتطوير في مجال تكنولوجيا الطاقة والطيران والطب في ألمانيا، التي تعتبرها الشركة بعيدة من عاصفة اليورو، إضافة إلى استثمار 56 مليوناً لتوسيع وجودها التجاري. ويبدو أن التوجه السائد يسعى إلى مواجهة التراجع الكبير الذي شهده عام 2010 بنسبة 19 في المئة للاستثمار الأجنبي المباشر، مقارنة بعام 2009. وفي أميركا الشمالية حيث بدأ الاقتصاد يكشف عن علامات تبشّر بتحول نحو الأفضل، ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 44 في المئة في تلك السنة وذلك وفق الإحصاءات المتوافرة. إلا أن الأوقات العصيبة لم تشهد خاتمة لها بعد. فمع كل محاولة تقوم بها التكتلات النقدية الغنية على أمل حصول تحول أوروبي إيجابي، لا تزال الآلاف من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تتعرض لاستنزاف بفعل ثلاث سنوات من التقلبات المالية والاقتصادية الناتجة من البلدان الأضعف في القسم الجنوبي من منطقة اليورو. ويلجأ الكثير من هذه الشركات الأصغر حجماً، وهي شركات تكون عادة مسؤولة عن تأمين معظم فرص العمل الجديدة في أوروبا، إلى الاحتفاظ بالنقود بانتظار تبلور صورة أوضح عن الوضع الإقليمي والعالمي. وعلى رغم صدور برنامج جديد عن المصرف المركزي الأوروبي يهدف إلى تسهيل المؤسسات المالية في منطقة اليورو بالاقتراض بأسعار فوائد منخفضة لضمان الاستمرار في الإقراض لا يزال الائتمان المصرفي أكثر تشدداً بالنسبة إلى الكثير من الشركات الأصغر حجماً. وعلى رغم أن مصرف «بي إن بي باريبا» ومصرف «دويتشه بنك» وغيرهما من المؤسسات المالية العملاقة، تصر على أنها لم تعرقل على الشركات والمستهلكين عملية الحصول على القروض، إلا أن الكثير من الشركات الأوروبية والأجنبية التي تسعى إلى الاستثمار في أوروبا لا تزال تواجه صعوبات في الحصول على التمويل المصرفي لتوسيع نشاطاتها. وفي المقابل، تنجح الشركات الكبيرة بفضل أموالها الخاصة في الاستفادة من قروض المصرف المركزي المنخفضة. وعلى المسؤولين أن يطوروا نظاماً استثمارياً في دول الاتحاد الأوروبي لتمكين رجال الأعمال والشركات من تحويل الأفكار المبتكرة إلى نجاح تجاري فعلي، والعمل أيضاً على تقليص الفجوة الاقتصادية المتزايدة بين الدول الشمالية مثل بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ والدول الأضعف في الجنوب. فالشركات التي تستثمر تميل نحو الأسواق التي هي في ازدهار بدلاً من أن توسع أعمالها في دول فيها موازنات تقشف تثير شكوكاً في البيئة الاقتصادية والاستثمارية. ولا بد أيضاً من العمل على تقديم حزمة من الحوافز الاستثمارية، خصوصاً خفض الضرائب المرتفعة والتكاليف التشغيلية العالية وإزالة قوانين العمل الصارمة التي من شأنها حرمان الكثير من الشركات حقوقها. ولعل هذه الخطوات تبعث الأمل في اتحاد أوروبي متكاتف موحد ذي بيئة خصبة للاستثمار الأجنبي. * كاتب مختص في الشؤون الاقتصادية - بيروت