لم يعد من شك، بعد ثلاثين عاماً من الجمهورية الإسلامية في إيران وتمددها على الأطراف، أن تلك المرحلة انتهت لتبدأ مرحلة جديدة سمتها الاهتزاز في بنية النظام من ناحية وربما سقوطه في نهاية المطاف، وتوقف عملية التمدد الناشطة ان في الجوار الإيراني المباشر أو في ما هو أبعد منه – لبنان وفلسطين أساساً – من ناحية ثانية. والحال، أن التعبير الخاص بسقوط النظام أو انهياره، لم يعد ناشئاً من تحليل سياسي ولا حتى من «تآمر» غربي كما يقول أهله، اذ ذهب اليه أخيراً وفي شكل علني أحد المعنيين مباشرة بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما جرته على البلاد... المرشح للرئاسة، رئيس الحرس الثوري السابق، محسن رضائي. مع ذلك، فما يبدو على سطح الحدث الراهن في إيران – الحدث المستمر على رغم عمليات الإعدام والقتل والقمع والاعتقال المتواترة، وحتى هدوء الشارع الظاهري – ليس الا رأس كرة الثلج التي تتجه الى التدحرج سريعاً وفي أي يوم اذا ما نظر اليه من زاوية جبل الجليد الذي كشف الإيرانيون بتظاهراتهم الشعبية الواسعة، وعلى مدى أيام، وجوده بقوة تحت هذا السطح. أمران أساسيان برزا بوضوح بعد الثاني عشر من حزيران (يونيو) الماضي: أولهما، أن من يوصفون ب «الإصلاحيين» داخل وعلى هامش النظام الإيراني، بمن فيهم مير حسين موسوي ومحمد خاتمي ومهدي كروبي ومحسن رضائي، متخلفون بما لا يقاس بالمقارنة مع ما تفكر به وتريده جماهير الشعب الإيراني. ولم يعد ذلك سراً، لا على هؤلاء «الإصلاحيين» الذين بدوا في الفترة الأخيرة كمن يحاولون اللحاق بالشارع ولا على النظام نفسه والمرشد الأعلى للثورة ولنظام الحكم في طهران السيد علي خامنئي. وثانيهما، أن أحداً في المنطقة كلها (نظاماً سياسياً، أو حركة فكرية أو شعبية) لم يعر حدث إيران هذا الاهتمام الذي يستحقه، بل ان البعض بدا وكأنه لا يبالي به على رغم أنه بالغ الأهمية وبعيد التأثير بكل المقاييس السياسية والاستراتيجية والفكرية والاجتماعية، ومن أية زاوية نظر اليه، ليس بالنسبة الى إيران ونظامها الإسلامي وطوائفها وإثنياتها فقط وإنما بالنسبة الى المنطقة وشعوبها كلها أيضاً. وإذا كان العالم الخارجي، الغربي تحديداً، بما له من مصالح وتعقيدات وملفات مع الجمهورية الإسلامية في إيران، قد اكتفى بمراقبة هذا الحدث من بعيد (على رغم اتهامه من طهران بالتدخل)، فليس طبيعياً ولا منطقياً أن تلوذ بالموقف ذاته أنظمة ونخب وشعوب الجوار المباشر للحدث... من الخليج العربي الى اندونيسيا وباكستان وتركيا ومصر وشمال افريقيا. على المستوى الأول، بدا جلياً أن مئات الآلاف من الإيرانيين الذين ملأوا ساحات طهران وشوارعها تحت عنوان الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية، تلاعباً بها وتزويراً من أعلى قمة النظام الى أسفلها، لم يكتفوا بهذا العنوان بل تجاوزوه بعيداً جداً: الى الدعوة الى الحرية الناجزة للشعب الإيراني، والديموقراطية الكاملة لنظامه السياسي، وحقوق الإنسان في الحياة الكريمة وتوفير فرص العمل والأمان الاجتماعي والصحة والتعليم الخ... ولم ينفع في وقف التظاهرات الضخمة هذه، خصوصاً في أيامها الأولى، استخدام أدوات النظام القمعية كلها من قوى أمن وجيش الى «حراس ثورة» و«باسيج»، ولا قبل ذلك وبعده «التكليفات الشرعية» التي أصدرها المرشد الأعلى للثورة / الولي الفقيه السيد علي خامنئي، ولا أهم من ذلك كله استعداد بعض من يوصفون ب«الإصلاحيين» من داخل النظام للمساومة على بعض التعديلات «الإصلاحية» في مقابل الدعوة الى وقف التظاهرات من ناحية والاعتراف برئاسة محمود أحمدي نجاد من ناحية ثانية. وبهذا المعنى، فما أماط الحدث الإيراني اللثام عنه تمثل في أمور كثيرة من بينها: أ - نزع الشرعية الشعبية عن نظام ولاية الفقيه، بموازاة ما ذهب اليه كبار علماء المسلمين، والشيعة منهم خصوصاً، على مر العقود الماضية، واعتباره مجرد وجهة نظر فقهية قد تلزم البعض من رجال الدين والمقلدين الا أنها لا تلزم بأي شكل من الأشكال شعباً بكامله... بل شعوباً متعددة، كما هي الحال بالنسبة الى الشعوب والقوميات والطوائف والمذاهب المتنوعة التي تتعايش على الأرض الإيرانية. ب - انشقاق طبقة واسعة من رجال الدين على نفسها، بعد أن عملت سوية، وبالتناغم في ما بينها، على حكم إيران طوال ثلاثين عاماً للآن، وإن لم يكن انشقاقها على قاعدة الخلاف حول ولاية الفقيه والنظام الذي بني على أساسها، بل على تقاسم النفوذ والحصص والمنافع كما بدا بعد نتائج الانتخابات الرئاسية. ج - جرأة الجماهير، وأجيال الشباب من بينها خصوصاً، ليس على التمرد على الولي الفقيه فضلاً عن أدواته الدستورية والشرعية فحسب، وإنما على جيش كامل العدة والعدد والالتزام الديني من «حراس الثورة» و»الباسيج» بما في ذلك الوقوف في وجهه والاصطدام العنيف به. على المستوى الثاني، بدت المنطقة كلها – أنظمة حكم وشعوباً ونخباً وحركات سياسية – في موقع من يشمت بالنظام الإيراني ويتوقع، بل يتمنى قلبياً، انهياره بالكامل في أية لحظة، على خلفية من اثنتين في وقت واحد: أولاهما، أن أحداً في المنطقة لم يأمن شروره وتدخلاته في السنوات الماضية سياسياً وأمنياً وطائفياً ومذهبياً، وثانيهما أن أحداً كذلك لا يريد، من طريق إبداء موقف مما يجري في إيران، أن يقدم للنظام فيها «خدمة» طالما أرادها هذا النظام... توسيع شقة «الحرب» السنية – الشيعية الناشبة في المنطقة حالياً، والتي لم تكن موجودة في أي مكان من العالمين الإسلامي والعربي قبل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. والمفارقة هنا، أن حدثاً كبيراً وبمثل هذه الأهمية يتوارد فصولاً في الداخل الإيراني، وتتردد أصداؤه على مساحة العالم، بينما لا تفعل شعوب المنطقة وأنظمتها ونخبها السياسية والفكرية الا أنها تكتفي باستراق النظر اليه من بعد... وحتى من خلال منظار عتيق العدسات. والمفارقة الأكبر، أن من بين ردود الفعل التي يتوقعها الكثيرون – في المنطقة، وفي غيرها من العالم – أن يلجأ النظام الإيراني، من أجل الحفاظ على نفسه وإحباط انتفاضة الشعب فيه في مهدها، الى اعتماد سياسة الهجوم بدلاً من الدفاع. ومن النظرة الأولى، فلا هجوم في مثل هذه الحالة، الا وتكون الأطراف القريبة من إيران وبجوارها ساحته المفتوحة وربما هدفه المباشر. ومن الخليج العربي، الى لبنان وفلسطين والعراق وغيرها، شهدت شعوب المنطقة « أسلحة « إيرانية متعددة الأنواع والأحجام كما اختبرت عواقبها الكارثية في الفترات السابقة. وفي ضوء ذلك، يبقى السؤال: هل تغير الجماهير الإيرانية الغاضبة، ومعها شعوب المنطقة اللاهية بالمراقبة من بعيد، المنظار الذي ترى من خلاله الى احتمالات الأسابيع والشهور المقبلة؟! * كاتب لبناني