بعد نحو عام على اعتقاله، عاد الصحافي فراس كيلاني إلى الأمكنة التي شهدت تعذيبه، ومكوثه على حافة القتل، إبّان الثورة الليبية. هذه المرة عاد، كما في المرة الأولى، صحافياً ميدانياً، لمصلحة قناة «بي بي سي عربية»، ولكن ليس لتغطية مجريات الأمور في ليبيا، كما كانت قبل عام، والتي كادت تودي به إلى التهلكة، بل لاقتفاء أثر ما جرى بعد انتصار الثورة، ومقتل العقيد القذافي، وسيادة الميليشيات على المكان. منذ اللحظات الأولى في الفيلم الوثائقي «أقبية التعذيب في ليبيا»، يحضر المكان بقوة. سيستذكر فراس كيلاني الأمكنة التي مرّ بها مرغماً، وهو قيد الاعتقال، ورهن الإعدام. وفي واحدة من اللقطات المؤثرة، يجثو على ركبتيه في المكان ذاته، الذي جثا فيه للموت المُنتظر، كما يمرّ على الزنزانة التي أمضى بها وقتاً طافح بالقهر والمهانة. يعلو صوت المكان إذاً، بدءاً من عنوان الفيلم الذي جعل من «أقبية التعذيب» عنواناً له، حتى ليكاد يختزل بلداً، ثم يمضي في رحلة تجوال وبحث عن الإنسان، لعل بتزاوجهما يستعاد إمكان سرد فصول من حكاية ما جرى، هنا في ليبيا، قبل عام، وباللقاء مع الناس أنفسهم، جلادين كانوا أو ضحايا... أبرياء أو متهمين. لا يكتفي كيلاني بسلاسة التعليق الصوتي، الذي شاءه بصوته، تعبيراً عن مدى علاقة هذا الفيلم بتجربته الخاصة، وموقفه الشخصي، ومعاناته الذاتية... بل يحضر أمام الشاشة محاوراً، متسائلاً، متأملاً، حتى ليغدو الأمر وكأنه محاولة تطهّر من آلام الذاكرة، باستعادة التجربة المرعبة، وقولها. ليس عبثاً أن يعود كيلاني للمرور على الأمكنة التي ما زالت تحمل أنفاس الفجيعة، وإجراء اللقاء بالشخصيات، التي ما زالت تتوافر، ومساءلتها، ومساجلتها. الصحافي فراس كيلاني يتطهّر من المأساة بفيلمه. وربما يمكن القول إنه يريد الانتقام «فيلمياً»، مما جرى له من قبل، وممن فعلوا به أقسى أنواع العذاب والإهانة، غير آبهين بإنسانيته، أو بحصانة مهنته! لكنه لم يتوقّف عند حدود ذلك أبداً، إذ منح الوقت الكافي من الساعة التلفزيونية التي يأخذها الوثائقي، لمتابعة حكايات ضحايا ليبيين، سواء قُتلوا فرادى أو جماعات، في مواجهات واشتباكات أو في مجازر ارتكبت بدم بارد. وبمقدار ما يفضح همجية النظام بكتائبه ومرتزقته، لا يتردّد أبداً الوثائقي في الوقوف أمام بعض ما يحصل من تجاوزات لسرايا وميليشيات كان لها دور في الثورة. هكذا ينتقل الوثائقي من مهمة إجراء جردة حساب مع ما مضى، بكل قبحه، ليصل إلى مستوى فعل مستقبلي، ينشد إمكان المصالحة، وفتح صفحة جديدة، لليبيا جديدة. في واحدة من الذرى الدرامية التي يقدّمها الوثائقي، يتمكّن كيلاني من عقد مواجهة بين الضحية والجلاد. بين ناجين من براثن مجرزة دامية، وأحد مرتكبيها. مواجهة من النادر أن يتمكّن وثائقي عربي من تحقيقها، ربما تكون في الواقع مقدّمة لقيام دولة القانون والعدالة، والمسامحة والمصالحة.