من المهم بالنسبة الى الذين ينتقدون مسار الربيع العربي ويتخوفون مما سيؤول اليه أن يتوقفوا قليلاً عند الحراك السياسي الإيجابي الذي تشهده المجتمعات التي تحقق فيها هذا الربيع حتى الآن. مجتمعات تغلي بمطالب وتحركات وتكتلات وانشقاقات، على ما تشير اليه تجربة الانتخابات الرئاسية المصرية حالياً، وما تفرزه من صراعات داخلية في صفوف الحركة الاسلامية. هذا المناخ لم تعرف المجتمعات العربية مثله منذ انحسار الانتداب والاستعمار عن الدول العربية في اواسط القرن الماضي. انها اول ثورة شعبية منذ بزوغ فجر الاستقلال في هذه الدول، لا يحركها الاجنبي ولا تخدم اجندة خارجية، بل ان قيام الثورات العربية خلق حالة من التشكيك والتردد في مواقف الخارج منها، كما دلت المواقف الغربية من الثورة المصرية مع بداياتها، وكما يؤكد التردد الغربي حيال دعم فعلي للثورة السورية حالياً. من تونس الى لبييا، ومن مصر الى اليمن، تعيش المنطقة العربية عصراً مزدهراً من السياسة، بمعناها الواسع، من الجدل والنقاش بين الافكار، يخرج الى الشارع احياناً، وتعبر عنه مقالات الصحف وندوات التلفزة احياناً اخرى. ولا يعيبه انه يتميز بأصوات مرتفعة او بحدة في النقد والخطاب. انه بمثابة التعوّد على المشي بعد ان كانت المجتمعات العربية كسيحة لفترة طويلة. ولذلك، فلا بد من التعثر والسقوط احياناً قبل الوقوف على قدمين ثابتتين من جديد. لا شك في ان هناك قلقاً مبرراً على مصير هذا الربيع العربي. منهم من سارع الى وصفه بالخريف، او بالشتاء... او ما الى ذلك. اصحاب النظرة السوداء هؤلاء ينطلقون في مواقفهم من اعتبارات كثيرة، بينها ما يصب في مصلحة الثورات بهدف تصحيح مسارها وانقاذها، ومنها ما يصب في مصلحة الانظمة البائدة التي قامت الثورات لإسقاطها. هذا القسم الاخير من مدّعي القلق على الثورات لا فائدة حقيقية ترجى من الجدل معه. فهو فريق كان مستفيداً من الانظمة الراحلة وحليفاً لها، ومدافعاً -ولا يزال- عن تنظيراتها، تحت شعار الحفاظ على استقرار البلد، وعلى اساس ان المعروف افضل من المجهول. على الجانب الآخر، هناك تلك الانظمة التي تنتهز الشعارات الوطنية المزعومة لتبرير بقائها على اساس انها الوحيدة القادرة على تحقيق طموحات الامة وعزّتها. هذا الفريق يرى ان التضحية بمطالب الداخل وبالحقوق السياسية والاجتماعية امر تستحقه المصلحة القومية العليا لتحقيق اهداف النظام المزعومة في المقاومة والتحرير. اما الذين يستخدمون حالة الغليان التي تعيشها المجتمعات العربية بعد الثورات لتبرير موقفهم الداعم للاستقرار فهم يتجاهلون ان هذا الاستقرار كان مثل الجمر تحت الرماد، وهو الذي ادى الى الانفجار الضخم الذي تعيشه هذه المجتمعات حالياً. الى جانب الخائفين على الانظمة البائدة او التي في طريقها الى السقوط، هناك القلقون من نفوذ المد الاسلامي في الانظمة الجديدة. ويتوزع هؤلاء بين متطرفين من الاقليات الدينية، لهم الحق الطبيعي في التخوف على حقوقهم كمواطنين متساوين، لكنهم في الوقت ذاته يعانون خوفاً غريزياً من كل ما هو اسلامي، وبين مغالين في علمانيتهم، ينظرون الى الخطاب الديني على انه خطاب خطر على المجتمعات المدنية التي يسعون اليها. غير انه الى جانب هؤلاء واولئك يقف في هذا الفريق من ينتقد نفوذ الاسلاميين ويتخوف منه، فيما هو فعلياً حليف او صنيعة نظام لا يخفي هويته الدينية، متمثلة في «ولاية الفقيه». في كل الحالات، يغفل المتخوفون من نفوذ الحركات الاسلامية حقيقتين: الاولى هي الخطاب المتجدد لهذه الحركات، والذي تميز بانفتاح استثنائي لم نعرفه عنها منذ قطيعتها الدامية مع الانظمة الدكتاتورية السابقة. ينطبق هذا بشكل خاص على مصر وتونس، كما ينطبق على تجربة «الاخوان المسلمين» في سورية. من المهم لمنتقدي بروز الاسلاميين كما للمتخوفين منهم ان يقرأوا جيداً الخطاب السياسي الجديد لهؤلاء، وان يحكموا عليه بعقل منفتح وليس من خلال مخاوفهم الباطنة. اما الحقيقة الثانية فتتعلق بالمناخ الجديد الذي ينتشر فيه هذا المد الاسلامي، والمقصود هو المناخ الديموقراطي التعددي الذي بات سمة ملازمة للأنظمة والمجتمعات بعد الانفجارات الشعبية التي شهدناها. فقد بات يصعب ان تعود المجتمعات العربية الى الوراء وان تسمح بقيام انظمة من النوع الذي انقلبت عليه، ومهما كان اللون الذي ستكون عليه هذه الانظمة، مدنية كانت ام دينية.