على مقربة من حي الوزارات بأوسلو لا تزال آثار انفجار 22 تموز (يوليو) 2011 ظاهرة. فواجهات مبانٍ كثيرة سُمّرت أطر نوافذها بعارضات خشبية تحول دون سقوطها، وتحيط الهياكل المعدنية بجدران يتولى العمال ترميمها وتجديدها إلى اليوم. وتعترض بعض الطرق حواجز تستعمل في تطويق هذه المنطقة من المدينة إذا احتاج الأمر إلى تطويقها. وفي الأثناء، عاد رئيس الوزراء الاشتراكي الديموقراطي يانس ستولتينبيرغ، إلى مكتبه. والناس يذكرون الدور القوي الذي اضطلع به أثناء المأساة، وإحاطته المملكة بمشاعره ومواساته المفجوعين، ودعوته مواطنيه إلى الرد على الكراهية بالديموقراطية والرأفة الإنسانية والضيافة. وفي الأسابيع التي أعقبت الكابوس، تكاتف النروجيون على اختلاف طوائفهم وأصولهم، وبرهنوا على رصانة نادرة. فالمثال الاجتماعي النروجي هو مبعث اعتزاز النروجيين جميعاً، وكان المثال هذا دعا رئيسة الوزراء غرو هارلم بروندتلاند إلى القول في 1994، إن الميل إلى الصلاح والخير هو من طبع النروجي ومزاجه. لكن النروج عاشت منذ الاعتداء المزدوج الذي ارتكبه أندريس بيهرونغ بريفيك، وقتل 77 شخصاً 69 منهم في جزيرة أوتويا، على وقع ذلك النهار، فصدرت كتب تغذي الحداد، وشهادات أليمة. وفي الأيام الأخيرة، انحسر الانشغال بالفاجعة، ثم جدد اقتراب محاكمة القاتل الإرهابي، في 16 نيسان (أبريل)، الانتباه. ويخيم على المملكة انتظار متوجس. «تلح على النروج حاجة نفسية عميقة إلى سير النظام القضائي سيراً مناسباً وناجعاً، وعدوان بريفيك استهدف في المرتبة الأولى دولة الحق والقانون»، يلاحظ هنريك سايز، الباحث في معهد «بريو» للسلام. وفعلة القاتل أصابت روح النروج في الصميم، وجبه البلد التحدي وتماسك في وجهه. وبعضهم عزا تماسكه إلى تراثه، ولكن ينبغي ألا يغمط أحد قوة تمسك النروجيين بقيمهم ومُثلهم. ورئيس الوزراء خطا خطوة كبيرة حين صرح للمرة الأولى باعتذار الدولة الرسمي عن اشتراكها في المحرقة. وأوردت صحيفة «أفتينبوستين» إن الاعتذار الرسمي «تعبير أخلاقي عن الذنب الذي نجره كلنا». وعلى رغم هذا، فالنروج تطفو إلى اليوم على غيمة صغيرة. وتبلغ البطالة 3.2 في المئة، وهي أدنى نسبة في أوروبا. ويجهر رئيس الوزراء بعزمه على إيجاد 70 ألف وظيفة جديدة في القطاعين العام والخاص في السنتين المقبلتين. ومن القرائن على عافية البلد توقيع شركة الطيران المحلية المعروفة بأسعارها المخفضة، «نروجيين»، عقداً مع «آرباص» و «بوينغ» تشتري بموجبه 222 طائرة! ومن يستطلع أحوال النروج على موقع مصرفها المركزي يقع على عمود، إلى يمين الشاشة، يعرض قيمة حساب النفط الذي تودع فيه، منذ 15 سنة، فوائض عوائدات الغاز والنفط المستخرجة من بحر الشمال على شاكلة أسهم وسندات دولية. وبلغت قيمة المحفظة في منتصف نيسان نحو 3500 بليون كورون أي نحو 460 بليون يورو، أي بزيادة 50 بليون يورو منذ الاعتداء. ومرآة الشاغل النقدي والمالية هي شعبية مواقع الشبكة التي تتيح تصفح قيمة الضرائب التي تسددها شخصيات معروفة والجيران! وتبذل الحكومة وسعها في سبيل تقليص الاستعانة بعائدات النفط، في 2013. وحذر رئيس الوزراء يانس ستولتينبيرغ من أن العائدات ليست وقاية ناجعة، ونبه إلى أن ضعف الاقتصادات الأوروبية، وهي تستوعب نصف الصادرات النروجية، قد يكون كابحاً يتعثر به الاقتصاد الوطني وازدهاره. وليس التقليل من التفاؤل يسيراً حين تعلن الصناعة اكتشاف حقل غاز هافيس الذي يضاهي مخزونه مخزون جوف بحر يارينتس من الغاز. وسبق الإعلانُ عن اكتشاف حقل سكروغارد، الإعلان عن حقل هافيس، والاكتشافان، على قول «ستاتأويل» الشركة الحكومية، «ولاية نفطية جديدة في الشمال». وبينما تتوالى فصول الازدهار الاقتصادي الساطعة، استرعى الناجون من جزيرة أوتويا الانتباه مجدداً. ففي بعض النواحي افتقر شبان إلى المساعدة النفسية، لكن البرامج المدرسية عُدلت لتتكيف مع ضعف الانتباه الذي أصاب شطراً عريضاً من التلامذة والطلاب منذ الاعتداء. وأعد للمحاكمة في أرجاء البلاد الإعداد الذي يشعر النروجيون معه بأن العدالة تحققت، وأن دروس الحادثة استخلصت من غير التسليم للبارانويا (العُظام) وهذيانها. تونجه برينّا، الأمينة العامة لاتحاد الشباب الاشتراكي – الديموقراطي، هي إحدى الناجين من جزيرة أوتويا، حيث الاتحاد كان مجتمعاً. وهي تشغل مكتباً صغيراً في الطبقة الثامنة من مبنى الحزب المطل على ساحة الشبيبة بأوسلو. وأدى انفجار 22 تموز إلى تحطيم زجاج المبنى القرميدي الحجار. لكن تونجه برينّا لا ترغب في تناول كابوس الجزيرة وقتاً طويلاً، وتقتصر على القول: «شأن كثيرين، بقيت ساعتين ممدة وأنا أحاكي حال الميتة». فما يحفز الشابة المدعوة إلى الشهادة في المحاكمة، هو الإعمار المنتظر. والصيف المقبل والقريب لن يشهد في أوتويا مخيماً صيفياً، على خلاف المعتاد. والأولوية العاجلة هي انقضاء المحاكمة والمشاعر الجياشة التي تثيرها. تقول برينّا: «ينبغي أن يشعر الناس بالأمن في أوتويا، وأن نجعل منها مكاناً متحضراً ونضيء الغابة». ويقتضي هذا، على قولها، هدم المباني التي قتل فيها الفتيان والفتيات، وبناء مبانٍ جديدة من غير المبالغة في التكريم والفخامة. وهذه موازنة غير يسيرة. وفي الأثناء، استعادت الحياة اليومية ورتابتها الغلبة. وتروي الأمينة العامة أن أسبوعين غداة الاعتداء كانا «عظيمين»، وفي أيلول (سبتمبر) نظمت الانتخابات البلدية، وعادت الأمور تدريجاً إلى طبيعتها. وطبيعة الأمور، وفق تونجه برينّا، هي مضي حزب التقدم، المنظمة الشعبوية التي نالت 22.9 في المئة من أصوات الناخبين في انتخابات 2009 التشريعية، على «عنصريته الصغيرة» المعتادة: «أظن أن النروجيين لن ينسوا الحوادث ذاتها، لكنهم سينسون وعدهم أنفسهم بقيم التسامح الديموقراطي والضيافة». وتسر برينّا بأن الطعن في حزب التقدم يكاد أن يكون «محرماً». فغداة الاعتداء أجمع النروجيون على حمل اتحاد الشباب الاشتراكي – الديموقراطي على ضحية منزهة من كل عيب. فأحاطت تصريحات قادته أو الناجين من الجزيرة، هالة قداسة باهرة: «فإذا اتهمنا حزب التقدم بالعنصرية رد الحزب بالقول إننا نتوسل بمكانتنا إلى إحراج خصمنا وحشره في موضع يستحيل فيه الجدال»، كما تقول برينّا. وعشية افتتاح المحاكمة في بلد لا يعاني الأزمة الاقتصادية، ولا تؤرقه البطالة ولا الدَّيْن، يستوقف الرأي العام موضوع من صنف مختلف هو قضية ال «450 طفلاً في الملجأ»، كما تسمي الصحافة الموضوع. فالنروج كانت أول بلد أوروبي وقع، نهاية كانون الثاني (يناير)، مع إثيوبيا اتفاقاً يخوله طرد المواطنين الإثيوبيين المقيمين على أراضيه خلسة. وفي مقابل الاتفاق تعهدت النروج زيادة مساعدتها الاقتصادية إلى إثيوبيا ضعفين. ويعلّق دوايث، وهو إثيوبي في ال41 يبحث عن عمل، وأب لطفل ولد قبل 20 شهراً في النروج ومهدد بالطرد، فيقول: «النروج تشتري الحق في طردنا. فكيف يرتضي بلد يزعم حيازة قصب السبق في الدفاع عن حقوق الإنسان، الانحطاط إلى توقيع مثل هذا الاتفاق مع ديكتاتورية؟». وهو يرى أن سياسة الهجرة النروجية اليوم ليست أقل قسوة من حالها قبل الاعتداء المزدوج. ومصير دوايث، ومئات غيره من الحائزين على وثائق هجرة قانونية وأولادهم، يثير عاصفة من النقاش والخلاف والانفعال في النروج. والحزب الاشتراكي – الديموقراطي محل انتقاد من جهات كثيرة، ومنقسم على نفسه، ويتقدم منتقديه الناجون من مجزرة 22 تموز. والحق أن الحزب ينتهج سياسة هجرة صارمة منذ 2008، ويتحاشى خسارة أصوات ناخبين كثر بواسطة هذه السياسة. ويخشى اقتراع الناخبين لمرشحي حزب التقدم، وهو الحزب الذي انتسب بريفيك إليه طوال 10 أعوام قبل صفق بابه وتهمته بالرخاوة والاعتدال. ومنذ الاعتداء ينصرف المراقبون إلى فحص نبرة المناقشة العامة والعلنية وحسها. ويلاحظ ترو باخ، مدير دورية «فيبسين» المختصة بالجماعات المتطرفة، أن «هواءً جديداً هبّ على البلد في أعقاب 22 تموز، على رغم الرضّة التي لن تفارقنا عقوداً طويلة، دأبت الردود على الحادثة على استقامة الفهم. فانخفضت حدة نبرة المخاطبة. ومنذ 22 تموز، وسع مسلمين كثيرين الكلام بصوت مسموع وعزل السلفيين والأصوليين الذين أخفقوا في جمع الأنصار في تظاهراتهم». ويقر توماس هايلاند، النجم الصاعد في حزب التقدم، أستاذ الإناسة الاجتماعية في جامعة أوسلو، بأن «الناس مجمعون، عشية السنة الأولى على الاعتداء، على رفض تكرار مثيله أو شبيهه، والأحزاب كلها تريد وضع اليد على الشعار المولود منه: مزيد من الديموقراطية ومزيد من الانفتاح. ولكن ما معنى الشعار؟ إذا كان معنى الانفتاح إرادة الاستماع إلى الآخرين، فلا بأس به، أما إذا كان معناه استضافة الأولاد الأبرياء والعزل، على ما نرى في قضية الأولاد الذين يطلبون اللجوء، فنحن لم نظهر الانفتاح». والناجون من أوتويا قرّبت المأساة بينهم، وقوّت روابطهم، ورسمت صورة مستقبل بلادهم. تقول تونجه برينّا: «أشد ما يتهدد النروج هو اللامبالاة. وأنا لا أخاف النازيين، لكنني أخاف التخلي عن مناهضة العنصرية ومحاربتها وحماية أنفسنا منها». وفتيان أوتويا وفتياتها حفروا الخشية هذه في مهجعهم. * موفد الصحيفة الى أوسلو، عن ملحق «جيو وبوليتيك» في «لوموند» الفرنسية، 15-16/4/2012 إعداد منال نحاس