من بعيد تَلُوح وتُلوّح، يرقص الهواء على ظهر أجنحتها، ترسم لوحة إخاءٍ بخلفية سماوية، تنسلُّ من تحت أريكة الغيم، لا تجرؤ رؤوسها على الاقتراب منها.. لا تجرؤ على الارتفاع أكثر، تنعشها رطوبة لا مرئية كلما اقتربت من الزرقة السفلية المتموجة. لا تنظر إلى الأسفل، إنها قصة البقاء معلقاً بين الأرض والسماء، قصة الحيرة القسرية، ذاتها التي ماطلت وحيّرت الإنسان من الأزل، أعجزت «ديداليس» و «إيكاريس» منذ فجر العقل، ومن بعدهم من خذلته أجنحة الحرير، فشنقت حلمه قبل أن تكسر ظهره. لا يهم اللون، أسوداً موشحاً بنعيق الغربان ووقاحتها، ببشاعتها الجميلة من بعيد، أم نورساً برداء البياض الهادئ، بصوت احتفالٍ شجي، يقسّم خلاله الموج معزوفة الماء الخالدة. ذلك الجمع الأبيض دوماً كان علامة تزاوج الماء باليباس.. الملح بالطين، الأمان والمجهول، البصر والبصيرة. لا يهم اللون، طالما علمت الرياح هوية المعلَّق على أكتافها من رقصات أجنحته، من تثاؤبات عضلاته، من حركات الأسراب المتشكلة. إنها الزرقة عندما تتفاخر بطغيانها، بدرجاتها، بسطوتها على الأفق، عندما تثبت أنها عدو السواد والظل، وتقنعك بأن البياض ليس سوى جزء منها، ربما يكون نقطَ نورسٍ في ساحاتها اللانهائية، أو بقع قطن في آفاقها، أو خيوط زبد في رقعتها المتماوجة. زبد البحر دمه، دمه الأبيض يريقه ضريبة نوبات جزره ومده المستمرة، إنه ضمير «الآن» الصارخ، وبيان «نعوة» لموجة تفتت عمرها على صخرة الأرض، حتى لو انتحرت على عتبة اليابسة من أجل رسالة داخل قنينة عبث الملح بلمعة زجاجها. رسالة لعاشق، أو لأم حنون، أو حتى لنابليون... إنها اللوحة التي لا يمكن للإنسان تشويهها.. نجت بسحرها من مزادات خرابه. [email protected]