تُظهر صورة كاريكاتورية نشرتها صحيفة «برلينر تسايتونغ» الألمانية، للرسام توماس بلاسمان، محطة محروقات خالية وشوارع فارغة إلا من سيارة متوقفة يقول صاحبها إنه لم يعد يستطيع تحمّل كلفة البنزين الذي وصل سعره إلى أكثر من 1.64 يورو لليتر الواحد، للمرة الأولى في تاريخه، علماً ان السعر قارب 1.70 يورو يوم نشر الكاريكاتور. وجاء في تعليق الرسام على الصورة: «برنامج إيران النووي - العقوبات الاقتصادية تُظهر مفعولها». تعاكس هذه السخرية بالعقوبات الغربية على إيران التيار السائد الذي يمتدح العقوبات على أساس أنها وسيلة ناجحة للضغط السياسي. أما الأصوات التي تنتقدها كصوت غيرنوت إيرلر، وزير الدولة السابق في وزارة الخارجية الألمانية، فترى فيها وسيلة بلاد جدوى. ففي مقابلة إذاعية قال إيرلر ان عزل إيران على الصعيد الاقتصادي يفقد عازليها القدرة على الضغط عليها. ودعا إلى اتباع الحوار في إطار خطة سلام وازدهار لعموم الشرق الأوسط. ويرى مدير معهد هامبورغ لبحوث الأمن والسلام ان العقوبات تعطي ثمارها بنسبة 20 إلى 30 في المئة من الحالات. ويدلل ميشائيل توكوس، العضو في غرفة التجارة الألمانية - الإيرانية، على عدم تأثير العقوبات في إيران بتوافر تقنيات أميركية عالية في سوقها، من كومبيوترات «أبل» وآلات «كاتربيلر» ومعدّات «نوفل» وغيرها من طريق طرف ثالث مثل ماليزيا ودول أخرى. أما الطرف المتضرر جراء ذلك فهو الشركات الألمانية على حد قول توكوس لأنها تُحرم من فرص التصدير. والسؤال الذي يطرح ذاته هو: لماذا يبقى تأثير العقوبات الاقتصادية عموماً بما فيها العقوبات الغربية محدوداً؟ ولا تقتصر الإجابة على الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالغرب، بل تشمل أيضاً ان الغرب لم يعد يحتكر صناعات التكنولوجيا العالية، باستثناء صناعات الطائرات البعيدة المدى، وبعض صناعات الكشف عن الثروات الباطنية العميقة، والفضاء، والاتصالات. وفي ما عدا ذلك، فإن دولاً صاعدة مثل كوريا الجنوبية والصين والهند وماليزيا والبرازيل قادرة حالياً على تصدير ما كان الغرب يحتكره، مثل صناعات السيارات، والأنسجة، والقطارات، ومصافي النفط والبتروكيماويات، ومحطات الطاقة، ومضخات النفط والغاز، وغيرها، بأسعار منافسة. وعمدت دول مثل إيران، تعاني الحصار الاقتصادي الغربي منذ ثمانينات القرن العشرين، الى اعادة تأهيل زراعاتها وصناعاتها وبناها التحتية فأصبحت هي ذاتها تصدر السيارات والقطارات ومحطات توليد الكهرباء إلى دول عربية ونامية. ويكمن عنصر آخر هو الأهم في إبطال مفعول العقوبات، في توجه الدول التي تعاني عقوبات إلى الاعتماد على مواردها المحلية في تأمين السلع الاستهلاكية لأسواقها، بدلاً من الاستيراد. ومن شأن هذا التوجه ان يساعد في عزل السوق الإيرانية عن السوق العالمية وإكسابها مناعة تجاهها في شكل يتعارض مع العولمة وحرية التجارة التي ينادي الغرب بتعزيزها. وإذا استعرضنا حال الاقتصاد الإيراني على أرض الواقع حالياً، تشير المعطيات الحالية إلى ان العقوبات، وبغض النظر عن رأي الذين يقللون من أهميتها، أدت إلى فقدان الريال الإيراني نحو نصف قيمته خلال السنة الماضية. لكن هذا الأمر يزيد نسبة الفقر بسبب التضخم وفقدان القوة الشرائية للعملة. ويمكن القول ان تعزيز التعاون الاقتصادي بين الغرب والقطاع الخاص في إيران يمكن ان يشكل ورقة ضغط أقوى بكثير من ورقة العقوبات للتأثير في صناع القرار السياسي فيها. فتشابك العلاقات الاقتصادية للقطاع المذكور مع الغرب سيجعل النخبة السياسية الإيرانية تفكر أكثر من مرة في كل خطوة قد تنطوي على مقامرات سياسية وغير سياسية. وهنا لا بد من التذكير بأن أوروبا الغربية ما كان لها ان تتجاوز إرث حربين عالميتين مريرتين لولا التكامل الاقتصادي بين دولها. أما بالنسبة إلى المنطق القائل ان العقوبات الاقتصادية الغربية تضر بالديكتاتوريات أكثر من ضررها بشعوبها، فأظهرت تجارب ان العقوبات تضر بغالبية الناس من خلال فقدان السلع وارتفاع الأسعار وتعطيل دورات الإنتاج، كما تشجع على التهريب والسوق السوداء برعاية صناع القرار السياسي، أي الذين تستهدفهم العقوبات أصلاً. ولعل التجربة العراقية أيام صدام حسين خير مثال. فخلال فترة العقوبات الغربية على بلده، جمع صدام وعائلته والمقربون منه ثروات طائلة من تجارة السوق السوداء بالنفط والأغذية والألبسة وأجهزة الاتصال والإلكترونيات وغيرها من سلع أساسية أو كمالية. وهنا لا بد من ان نذكّر بأن معظم قصور صدام بُنِيت خلال فترة الحصار وليس قبلها. أما الغالبية الساحقة من أفراد الشعب العراقي وفي مقدمهم الأطفال فعانت الحرمان والفقر والمرض والموت جراء هذه العقوبات. وفي كل الأحوال لا تؤسس العقوبات الاقتصادية صداقات مع الشعوب مهما عانت ظلم أنظمتها. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - برلين