كتبت صحيفة «التايمز» البريطانية هذا الأسبوع افتتاحية سياسية قالت فيها إن الرئيس بشار الأسد قد عبر «الروبيكون»، ولم يعد بمقدوره التراجع إلى الوراء. «والروبيكون» هو اسم نهر في إيطاليا اشتهر خلال العصر الروماني بأنه يفصل بين مقاطعتين متنازعتين، وأن العبور إلى الضفة الأخرى من قبل أي قائد كان بمثابة إعلان حرب. لهذا تحولت عبارة يوليوس قيصر «لقد عبرت الروبيكون» (49 ق. م) إلى مصطلح يراد به المواجهة والتحدي. وعليه، توقعت «التايمز» استمرار الحرب الأهلية في سورية، لأن قرار وقف الاقتتال لم يعد قراراً سورياً صرفاً، وإنما تحول إلى قرار إقليمي – دولي تشترك في وضعه عدة جهات. لهذا قام وزير الخارجية وليد المعلم بزيارة موسكو على أمل الاتفاق مع نظيره الوزير سيرغي لافروف على تنسيق الأدوار بالنسبة إلى خطة المبعوث كوفي أنان. وتردد في دمشق أن المعلم حاول إقناع لافروف بأهمية إيفاد مراقبين روس ضمن البعثة التي ستشرف على وقف إطلاق النار. ويبدو أن موسكو فضلت حصر دورها بالخطوات المتعلقة بمجلس الأمن، خصوصاً أن الدول الغربية امتنعت عن التورط المباشر بإرسال متطوعين لمساندة الجيش السوري الحر. كذلك انتقل رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان إلى بكين للاجتماع بنظيره الصيني وين جياباو، في محاولة للاتفاق على حض الحكومة السورية على احترام تعهداتها بوقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن. ومع أن بكين آثرت عدم التدخل في شؤون سورية الداخلية، إلا أنها أعربت عن أملها بأن تنفذ الحكومة والمعارضة التزاماتهما في إطار خطة أنان للخروج من الأزمة. والمؤكد أن الحكومة الصينية رحبت بالزيارة، واعتبرتها خطوة متقدمة في طريق تحسين العلاقات بعد مرور 27 سنة من البرود السياسي بين البلدين. والملاحظ أن ذلك البرود تراجع خلال السنوات العشر الأخيرة، بدليل أن حصيلة التجارة الثنائية ارتفعت من بليون دولار سنة ألفين إلى 19,5 بليون عام 2010. واللافت أن التحسن التجاري بين الصين وتركيا رافقه تحسن سياسي استفادت بكين من نتائجه في إقليم شينغيانغ الذي يضم غالبية المسلمين (الاويغور)». وحدث عام 2009 أن قام مسلمو الصين بأعمال شغب قمعتها الدولة بعنف راح ضحيته 184 قتيلاً. وانتصر أردوغان في حينه للمتمردين، محملاً بكين مسؤولية الفشل في وقف ما وصفه ب «المجزرة». ولكنه خلال زيارته الأخيرة، حرص على التوجه إلى إقليم شينغيانغ بهدف إظهار تعاطفه مع دولة لم يزرها رئيس وزراء تركي منذ 27 سنة. ورأت الصين في هذه البادرة تطميناً لأقلية كانت دائماً تخشى على مستقبلها من سياسة تذويب المسلمين واضطهادهم. في حسابات الدولة التركية، تبقى إيران الداعم الأقوى للنظام السوري، عسكرياً واقتصادياً. لذلك قرر أردوغان زيارة طهران لعله ينجح في تليين موقفها بالنسبة إلى خطة المبعوث الدولي والعربي كوفي أنان. خصوصاً أن الحدود التركية مع سورية ظلت تزدحم بفلول اللاجئين منذ انطلاق حركة الاحتجاج في آذار (مارس) 2011. الدولة في إيران لم ترحب بالضيف التركي الكبير على نحو يشير إلى ارتياحها واطمئنانها إلى تعامله السياسي والأمني تجاه سورية. وأشارت الصحف المحلية إلى الإهانات المتعمدة التي لقيها خلال زيارته القصيرة، كأن طهران كانت تحضه على المغادرة. مثال ذلك أن الرئيس أحمدي نجاد طلب تأجيل موعد استقباله بحجة المرض المفاجئ، علماً أنه استقبل في ذلك اليوم فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السورية. كذلك اعتذر مرشد النظام علي خامئني عن عدم استقباله في طهران بحجة وجوده في مدينة مشهد. ومع أن البرنامج الرسمي كان يشير إلى العاصمة كموقع لقاء، إلا أن أردوغان تجاوز هذه العقبة الديبلوماسية على أمل التعرف إلى حقيقة نيات مرشد نظام الجمهورية الشيعية تجاه أكبر دولة سنية في المنطقة بعد مصر. ولم يفاجأ الضيف بمطالب المرشد الأعلى الذي تمنى عليه الانضمام إلى التكتل الإيراني – السوري في مواجهة الهجمة الاستعمارية الجديدة. كما حذره من استخدام القواعد العسكرية التركية لنصب صواريخ تابعة لأجهزة الحلف الأطلسي. ولم يكن صعباً على أردوغان أن يفهم المؤشرات السلبية التي تعاملت بها طهران مع زيارته. خصوصاً بعدما لاحقته التصريحات الاستفزازية التي اتهمته بمصادرة دور مصر، واستضافة أعداء سورية وإيران. وكانت بذلك تلمح إلى اجتماع المعارضة السورية في إسطنبول. المصادر الغربية تزعم أن «الحرس الثوري» الإيراني، يتمتع بحضور دائم مع القوات الأمنية السورية. وهو يشارك في حماية المواقع الاستراتيجية، وفي تشغيل طائرات صغيرة من دون طيار لجمع المعلومات عن الثوار. وقد قتل منهم عدد من الخبراء الذين يصلون سراً إلى دمشق لتقديم النصح والمشورة. ويرى محللون أن الحضور العلني الإيراني على الساحة السورية يدل على مدى اهتمام طهران بمستقبل حليفها الاستراتيجي. كما يدل على أهمية توثيق علاقاتها مع مختلف أطياف المجتمع السوري على أمل التمكن من التأثير في مجريات الأحداث حتى في حال تغيير الحكم. علماً أن قيادة «الحرس الثوري» تستبعد سقوط بشار الأسد في القريب المنظور لأن خطة أنان وفرت له فرصة إحياء الحركة التصحيحية التي دشنها والده. ويتردد في هذا السياق أن نظام أسرة الأسد قد تعرض لخلافات متواصلة لم يظهر من مشاكساتها إلا القليل. فالعسكريون والحزبيون قرروا الاحتفال بمناسبة الذكرى ال 65 لتأسيس «حزب البعث» في البلاد. وعارضهم في هذا التوجه نواب وسياسيون أقلقهم أن يفسر المواطنون إحياء ذكرى هذه المناسبة بانه انقلاب على الدستور الجديد الذي شطب بشار الأسد منه المادة الثامنة التي تجعل من «حزب البعث» قائداً وحيداً للدولة والمجتمع. وانضم الرئيس آخر الأمر إلى صفوف العسكر والمحازبين، داعيا رؤساء المحافظات إلى «الاحتفال بمسيرة الحزب المدافع عن القومية والوحدة العربية والداعم للمقاومة بمختلف أشكالها». يقول المراسلون في موسكو إن زيارة الوزير وليد المعلم لم تلق آذاناً صاغية، بدليل أن الوزير الروسي لافروف لم يكن منشرحاً لأجوبة ضيفه أثناء المؤتمر الصحافي الذي جمعهما. والسبب أن المعلم حاول إقناع قادة روسيا بأن الالتزام بوقف القتال سيضيع على النظام فرصة ذهبية لضرب الجيش الحر وتدمير قواعده الاجتماعية ومصادر تعبئته. وتحدث عن تحقيق تقدم ملموس في مختلف المناطق، معترضاً على تنفيذ التعهد تجاه أنان، لأن فترة الهدوء ستعطي قوات المعارضة متسعاً من الوقت لإعادة تنظيم وحداتها وتطوير سلاحها الهجومي وتوسيع قواعد المقاومة في المدن والأرياف. ولوحظ أثناء المؤتمر الصحافي أن وليد المعلم أشار إلى تقاعس كوفي أنان عن تزويد الحكومة السورية بالردود التي طلبتها منه. وكان بذلك يلمح إلى طلب الضمانات المكتوبة بوقف العنف، والاستعداد لتسليم الأسلحة. وأشاح لافروف بوجهه عن المعلم، من دون أن يصدر عنه أي تعليق، واكتفى بالقول إن حكومته تدعم خطة أنان بكامل بنودها الستة. ثم كرر لافروف هذا الموقف مرة ثانية، طالباً من الدول المعنية إعطاء أنان الوقت الكافي لتثبيت وقف إطلاق النار. الوقت المطلوب، كما أعلن أنان، ليس محدوداً بفترة زمنية معنية، لأن البند الرابع من خطته يشير إلى الإفراج عن المحتجزين، ولكنه لا يلحظ مسألة اللاجئين السوريين الذين يزيد عددهم على المئة ألف نسمة. بقي أن نسأل عن الثغرات الموجودة في خطة أنان، لأن وقف الاقتتال لا يعني أن المشكلة السياسية قد حلت. ذلك أن الهاربين من قنابل النظام يخشون العودة إلى حظيرة النظام. وأن المنضوين تحت لواء المعارضة سيستأنفون تمردهم بهدف إسقاط نظام تجاهلهم مدة خمسين سنة. ومثلما أرجع اتفاق الطائف كل زعماء ميليشيات الحرب اللبنانية ليشاركوا في صنع السلام والإعمار والتنمية... هكذا أعطت خطة أنان النظام المتهم بقتل مواطنيه، حق إعادة اللاجئين... وحق تصنيف المتمردين والوطنيين! * كاتب وصحافي لبناني