بناء قديم، من حجرمعقود، تحيط به أشجار عملاقة من كل جانب، لتوحي للزائر بأنه في مكان هادئ وبسيط. انه «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» الرابض في قلب بيروت، داخل سور. فضاء المكان هادئ أيضاً، يطغى على أثاثه الطابَع التراثي الشرقي، وكأنك في بلاط سيف الدولة تترقب بدء مباراة شعرية. لكن المقيمين في هذا المعهد ليسوا شرقيين، فبين الحين والحين يطل شبان وشابات ألمان، علمت في ما بعد أنهم يقيمون في المعهد إلى حين انتهائهم من أبحاثهم الجامعية. شبان يبحثون في المكتبة عن بعض الكتب، وآخرون ينزلون السلالم إلى الخارج، مجهِّزين أنفسهم للانخراط في المجتمع اللبناني والعربي ليروا على أرض الواقع ما يمكن أن يساعد مراجع المكتبة ومصادرها في إتمام دراسة ما عن شرقنا أو عن لبنان الشرقي. احتفل المعهد اخيراً بالذكرى الخمسين لتأسيسه، وهو خلال هذه الأعوام استطاع ان يكون في طليعة المراكز الاستشراقية والثقافية في العالم العربي. لم تطل فترة انتظاري في الصالون، كنت أستمتع برؤية عدد من الألمان يدخلون ويخرجون وبأيديهم كتب عربية أو أوراق. جاءني السكرتير يدعوني للدخول إلى غرفة مدير المعهد الدكتور استيفان ليدر، ودخلنا في الحوار: أرجو أن تعطينا لمحة عن تاريخ المعهد الألماني للدراسات الشرقية؟ - تأسس المعهد الألماني للدراسات الشرقية سنة 1961 بمبادرة من جمعية المستشرقين الألمان، فشكَّل نافذةَ ألمانيا إلى العالم الشرقي. ولعلكم تعرفون أنه بعد الحرب العالمية الثانية، عاشت ألمانيا حالة انعزالٍ وابتعادٍ عن واقع العالم، الأمر الذي أثر مباشرةً على الدراسات الشرقية، التي تحتاج إلى اتصال دائم ومستمر مع العالم العربي. وهكذا تأسس المعهد، بهدف الاتصال مع الزملاء العرب الباحثين والأساتذة والكتاب، وأيضاً بهدف الحصول على الكتاب العربي. وقد حصلت هذه المبادرة على دعم من وزارة التربية والبحث الألمانية، ومنذ البداية لم يوجد أي ربط مباشر بين هذا المعهد وبين السياسة الخارجية الألمانية وشؤونها. هل كان الهدف ثقافياً بحتاً؟ - لم يكن ثقافياً فقط، بل أكاديمياً جامعياً. وقد أرسلت هذه الجمعية بعض الاختصاصيين إلى لبنان لدراسة المواضيع المطلوبة في بيروت، وحصل المعهد على الاعتراف به وبمهماته هذه من الجهات المعنية الرسمية في لبنان منذ البداية. وفي سنة 1963 اشترى القيمون على هذا المعهد مبنى في زقاق البلاط، وهو هذا المبنى الذي لا يزال إلى الآن، وأسسوا مكتبة أصبحت تضم حوالى 140000 كتاب، غالبيتها باللغة العربية، إلى جانب مجموعة كاملة من الدراسات الشرقية باللغة الألمانية، إضافة إلى الكثير من الدراسات في هذا الإطار باللغتين الإنكليزية والفرنسية، وحوالى 300 مجلة أكاديمية من كل نواحي العالم في ما يخص الدراسات الشرقية أو دراسات المنطقة والشرق الأدنى والمغرب والخليج... والمكتبة هي مكتبة عامة، في خدمة الناس. بين بيروتواسطنبول يهمنا أن تروي لنا جوانب من تاريخ المعهد الألماني للدراسات الشرقية في بيروت؟ - مع اندلاع الحرب في لبنان، تطورت الأمور إلى اتجاه صعب. ولكن رغم كل الظروف التي عاشها لبنان، استمر العمل في المعهد حتى نهاية الثمانينات. ولكن وبسبب أعمال الخطف، ترك عدد من العاملين المقر وهاجروا إلى اسطنبول، حيث أسسوا فرعاً، ومن الفرع أنشأوا معهداً صغيراً. وبعد عشرين سنة، أصبح المقر في اسطنبول معهداً يحمل الاسم نفسه «المعهد الألماني للدراسات الشرقية»، وأخذ استقلاليته إدارياً ومالياً خلال 2009–2010. وقد علمتنا هذه التجربة، أي تجربة انقسام المعهد إلى مقرّين، أشياء كثيرة، ومنها أن أهداف وجودنا هنا في المنطقة صارت تختلف أو تتغير مع الوقت وصولاً إلى التعاون مع الجامعات والأفراد الباحثين، أكثر من كونه مرصداً للدراسات الألمانية حول المنطقة هنا على الأرض. وعندما عاد العاملون الألمان إلى بيروت في أوائل التسعينات، حملوا معهم هذه التجربة الجديدة. ومنذ ذلك الوقت تغيرت الأمور على ثلاثة محاور: أولاً، أصبح التعاون أوطد بكثير وأهم من قبل. ثانيا، تعددت الفنون، أي أن الدراسات الشرقية انفتحت على الشؤون البارزة في المنطقة، وأخذت تتجاوز ما هو في النص، بينما كانت الدراسات الشرقية في السابق مركّزة على النص. وهكذا صار التعاون مع العلوم الاجتماعية والسياسية والألسنية والتاريخ المعاصر أهم، يعني أن مفهوم الاستشراق استطاع، إلى حد ما، أن يحقق أهميته، من حيث إن الدراسات أصبحت مركّبة أكثر، أي تتضمن فنوناً وعلوماً عدة، فبعد أن كان المعهد يمثل الدراسات الشرقية التقليدية سابقاً، أصبح يشمل المواد الأكاديمية كلها التي تخص المنطقة. ثالثا، يرتبط هذا المحور بالمعهد الذي شجع انعقاد المؤتمرات واللقاءات الأكاديمية دائماً على هذا المستوى، أي أن الدارسات الشرقية كانت سابقاً مادة تهتم بالأسئلة المنهجية والأسئلة العامة، في حين صار العمل حالياً يحتوي على كل هذه العناصر: البحث العلمي، تنظيم اللقاءات والمؤتمرات، والعناية بسلسلتين لنشر كتب تضم دراسات ونصوصاً بيروتية، ونشر مخطوطات إسلامية. زيدي على ذلك التعاون الذي تم في الآونة الأخيرة مع المعهد الألماني في القاهرة، من خلال الجامعات والباحثين هناك، ضمن إطار هذه المحاور الثلاثة. هل نستطيع القول إن هنا تكمن أهمية المعهد بالنسبة للثقافة العربية؟ - المعهد جسر ثقافي أكاديمي مدعوم من المؤسسات الثقافية ووزارة البحث والتربية الألمانية، ونهتم بكل ما يمثل الثقافة العربية. ومن غير الممكن طبعاً أن ننفذ مشاريع ثقافية بكل الفنون في الوقت نفسه، ولكننا إذا نظرنا إلى ما نُفِّذ في العشر سنوات الأخيرة، نستطيع القول إنه لا يوجد أي موضوع غريب عن هذا المعهد، لأننا تطرقنا لشتى المواضيع، كالسينما العربية، الأدب العربي الحديث، الفكر العربي الحديث، التاريخ، التراث العربي الإسلامي... كل هذا له مكان على مسرح أنشطة المعهد الألماني للدراسات الشرقية. من هنا، فإن الربط بين الثقافة العربية الحديثة واهتماماتنا مباشر ومتين. كيف تصف لنا هذا الدور الذي يلعبه المعهد بين ألمانياوبيروت؟ - نحن في البحث الأكاديمي لا نستطيع أن نمثل الثقافة الألمانية في لبنان، ولا يمكن أن ننقل الثقافة العربية بكل ألوانها إلى الخارج، هذا يتجاوز هدفنا بكثير. ولكن، بالنسبة للبنان كمجتمع له خصوصيته، فإن كل طالب ألماني مهتم بلبنان يعرف المعهد الألماني، طبعاً نحن نتحدث هنا عن المجال الأكاديمي، وإن كنت لا أستطيع أن أقول إن العكس صحيح، لأننا لا نستطيع أن نفسح المجال للجميع، لسبب أساسي هو أن عملنا وإنتاجنا مراقبان من الجهات المسؤولة عن المعهد. لذلك، يجب أن نقرر ونقدر ماذا نعمل وماذا ننتج، وإذا رأينا أن التعاون مع أي طالب لبناني مفيد للجهتين، أي للطالب وللمعهد، فإننا نتعاون معه. ماذا استطعتم أن تحققوا على المستوى الأكاديمي؟ - هذا سؤال من الصعب أن أجيب عليه بسرعة وشمولية، عندنا مشاريع وكتب لكثير من الكتاب اللبنانيين والعرب الذين أصدروا كتبهم في إطار منشورات المعهد، كما أننا في صدد تنظيم مؤتمرات يشارك فيها معظم الباحثين. بالنسبة لي لا يمكن أن أتخيل عملاً من هذا النوع، أقصد البحث العلمي حول قضايا المنطقة، إلا بهذا الشكل، الذي يتم عبر التعاون مع زملاء في المنطقة نفسها. اما المؤتمرات التي عقدت في الآونة الأخيرة، فهي متعددة المواضيع والاهتمامات، ولا تنحصر في الشأن اللبناني فقط، فنحن نعتبر لبنان ساحة ثقافية مهمة، لكونه يمنحنا حرية البحث، وحرية الكلام، واللقاء بين زملاء من أوروبا وأميركا والزملاء العرب. أما إذا كان الموضوع لبنانياً بحتاً، فإننا نركز حينها على لبنان. ولكن الاهتمامات تكون عادة مفتوحة. وعلى صعيد آخر، يأتي إلى المركز العديد من الباحثين الألمان الذين يحققون مشروعات ثقافية معينة لمدة ثلاث أو أربع سنوات ويعودون بعدها إلى ألمانيا. وفي الكتيب الذي أصدرناه بمناسبة خمسين سنة على تأسيس المعهد، جمعنا معلومات عن كل مَن استقبله المعهد كباحث من ألمانيا بشكل رسمي. لاحظنا أنه في السابق كان العدد محدوداً، أما الآن فقد تجاوز عدد الباحثين المئة وعشرين... من هذا المنطلَق يمكن اعتبار مرحلة البحث في المعهد مرحلة إعدادية للحياة الأكاديمية في ألمانيا في ما يخص الدراسات الشرقية. هل نفهم من هذا الكلام أن المعهد الألماني هو مركز استشراقي؟ - في الواقع، كان المعهد في بداياته مركزاً استشراقياً بمعنى المرصد للحصول على الكتاب العربي، فقد كان الحصول على الكتب العربية صعباً في الستينات، أما اليوم فلم يعد يحتاج الحصول عليها إلى مرصدٍ في ألمانيا أو أميركا أو في الدول العربية... كان المعهد في السابق مرصداً بمعنى أن المرسَلين تلاقوا بالفكر العربي والإنتاج العربي والحديث الجاري في أوساط المثقفين والمفكرين، أما الآن، فبواسطة الوسائل الحديثة والتكنولوجيا المتطورة يستطيع أي إنسان أن يحصل على الكثير من الكتب التي يبحث عنها. في الوقت الراهن، يهتم المركز بالعلوم المتعلقة بقضايا المنطقة، ونحن لا نقبل، سواء على مستوى البحث أو الباحثين، إلا مَن يعتمد على المصادر المحلية ويكون قادراً على الدراسة والتلقي والتحليل. وأنا أرى وأصرّ على أن أهم وظيفة للمعهد هي تبني الأبحاث التي تنطلق من الميدان، إضافة إلى العنصر الحواري الواقعي، أي محاكاة الواقع، وإجراء لقاءات مع الباحثين والكتّاب والمفكرين في المنطقة. انطلاقاً من هذا التوصيف ماذا يعني الاستشراق؟ - أظن أن الاستشراق صار كلمة من دون معنى. أصبح الكلام في هذا الاتجاه كلاماً فارغاً! ومعظم الذين يتكلمون عن الاستشراق لا يعرفون عما يتكلمون! الاستشراق حقل دراسي واسع متنوع نجد فيه مقاربات ودراسات تختلف تماماً من حيث الأهداف والخلفيات والمناهج. لذلك أقول إن مفهوم الاستشراق الذي كان في السابق، لم يعد موجوداً الآن، هذا إضافة إلى أن تاريخ الاستشراق قضية معقدة وتاريخ جميل وطويل ولا يمكن أن يُلخص بجمل قليلة. ولكن يمكن أن نقول إن الاستشراق كان مدرسة حاولت فهم المنطقة عن طريق النصوص. أما حالياً، فهناك حركة علمية أكاديمية حديثة لا تعتمد على النص فقط، بل تلتفت كذلك إلى تعددية المقاربات والفنون والعلوم الاجتماعية. إذاً، بالنسبة لنا الاستشراق هو تراث موجود منتِج وحي، بخاصة في ما يتعلق بتحقيق الكتب من المخطوطات العربية... ولكن المعهد لا يمكن أن يستمر في إطار هذا التراث فقط، بل هو معني بكل العلوم التي تخص المنطقة. برأيكم، هل يعود تغير مفهوم الاستشراق إلى كوننا نعيش في عصر العولمة؟ - لا أرى ذلك، لأنه قبل الدخول في عصر العولمة، كان يُتوَقع من المستشرق أن يشرح أوضاع العالم العربي أو الشرق الأدنى، وهو لا يقدر على ذلك، بل هذا أمر مستحيل وخطأ، إذ باستطاعته الآن أن يشرح واقع منطقة معينة إذا كان يتخصص في العلوم السياسية، أو أن يشرح الأدب العربي أو الفكر الديني أو التراث، طبعاً حسب اختصاصه... ذلك الواقع كان قائماً قبل عشرين عاماً، أما الآن، فإن التركيز ينصبّ على التخصص والتنوع. لذلك أقول دائماً إن الاستشراق له تاريخ عجيب وممتاز ويجب أن نعطيه مكانته المستحقة في ميدان تتواجد فيه فنون مختلفة. من هنا، أتت العولمة لتعطي الاستشراق حقه بمعناه الجديد، من خلال التخصص وليس من خلال التمثيل الشامل. اللغات الثلاث كيف يتفاعل الجمهور اللبناني والعربي مع المعهد؟ - من جهتنا، ننظم أمسيات ومحاضرات، ويأتي الجمهور إما اهتماماً بالموضوع وإما لكونه مدعواً من الأستاذ المحاضِر. وهذا أمر طبيعي جداً وميزة أساسية من ميزات مدينة بيروت، فالكثير من زوار المعهد ورواده يهتمون بأهدافهم البحثية وأعمالهم الأكاديمية، ولا يهتمون بمسألة ما إذا كانوا مع سياسة الألمان أو ضدها، وفي المقابل لا يلمسون مثل هذه التوجهات في معهدنا. لذلك أقول إن المعهد الألماني في بيروت ناجح ومنتج ومشجع ومثمر. أين هو موقع اللغة الألمانية في زمن تعتبر فيه اللغة الانكليزية لغة عالمية؟ - اللغة الألمانية في بيروت غير موجودة تقريباً. في حين يختلف هذا الواقع في القاهرة، حيث نجد العديد من المدارس والثانويات تعتمد اللغة الألمانية كلغة أساسية. لذلك فإن سياستنا اللغوية هنا تقوم على الترحيب باللغات الثلاث: العربية، الانكليزية والفرنسية. بالنسبة للغة الانكليزية، هناك اتفاق غير معلن بأنها لغة تمثل الوسيلة الأساسية في النشرات العلمية، وينعكس هذا الواقع إلى حد ما على الإصدارات الكثيرة من الكتب باللغة الانكليزية. وأنا كثيراً ما أكتب باللغة الانكليزية، لأن اللغة الألمانية في هذه المنطقة ليست ذات أهمية، وبالنسبة لي الأمر طبيعي. أما في ألمانيا وفي أوروبا، فالمواقف تبدو مختلفة، فهناك مواقف حيادية وأخرى تحفز على أهمية اللغة الألمانية في الاتصال الأكاديمي، وهذا صحيح وجيد، وأنا معهم. لكنني في الوقت نفسه أستخدم اللغة الانكليزية لأنها على المستوى التطبيقي أسهل وأقرب. ومن الناحية العملية، فإن وظيفة المعهد الألماني في المنطقة ليست نشر اللغة الألمانية، وإنما مهمتنا الأساس هي إيصال الأفكار وتبادل الآراء، إلى جانب مثابرتنا على إعلاء شأن اللغة الألمانية. هنا لا بد أن نسألك عن بيروت؟ - لا أحد لا يحب بيروت، للحياة في هذه المدينة لون لم أجده في مكان آخر، رغم وجود الكثير من الصعوبات، إلا أن المناخ الفكري في حالة تأهب دائمة، واللبناني نشيط، وبيروت لديها روح الحركة. أما الأمر المؤلم، فهو واقع الشباب اللبناني، الذي يسعى بعد أن ينهي مرحلة الدراسة الجامعية إلى الهجرة، ويستمر في بناء حياته الشخصية خارج لبنان. وقد يعود لقضاء مدة أسبوعين أو ثلاثة فقط، كأي سائح أجنبي.