روت أخت مصطفى كمال أتاتورك واسمها «مقبولة هانم» بعد موت أخيها ما يعين على فهمه إن غاب الكشف عن دوافع سياساته بإلمام، ومما روته الأخت أنه كان مثل بقية أقرانه يدرس اللغة العربية، وكان معلِّمه رجلاً معمّماً فظاً غليظ القلب، فحصل أن طلب منه ترديد تصريف الفعل الثلاثي المسند للمتكلم والغائب والمخاطب، مذكراً ومؤنثاً، مفرداً وجمعاً، ماضياً ومضارعاً وأمراً، فتلعثم الفتى لبلادته في اللغة، فصفعه المربِّي الجاهل بنفسية طلابه أمام زملائه، ومنذ ذلك اليوم البعيد قرر مصطفى كمال المعتد بنفسه وكبريائه استبدال اللغة العربية ومعها لابسي العمامة. أما الحكاية الثانية فمسرح أحداثها أرض برلين قبل الحرب العالمية الأولى، حين حضر مصطفى كمال وهو ضابط يرتدي الطربوش مناورات الجيش الألماني، فجلس بين ضباط ألمان يتناقشون، فأدلى برأيه، فنظر إليه المجتمعون باستهجان ولم يكلفوا أنفسهم عناء الرد، ليتبين لهم لاحقاً أن رأي الضابط التركي هو الأصوب، فيتوجهون إليه معتذرين بقولهم: «لم نحسب أن رأساً عليه هذا الطربوش المضحك قادرٌ على أن تنبت من تحته فكرة ذكية»، ومن حينها نوى مصطفى كمال إعدام الطربوش ومن تجرّأ على وضعه. تذكرت هاتين الحادثتين وأنا أقرأ كلمة الأمير سعود بن عبدالمحسن في إحدى مناسبات التفوق العلمي، والتي انتقد فيها بعض جوانب الواقع التعليمي السعودي وكان منطقياً وصريحاً ولا مجال لتفنيد بنوده، ولكن دعني أتناول تركيزه على أهمية مادتي الرياضيات والعلوم في استحقاقات تطور الأمم، وأربطه بما روته يوماً صديقة تركت مهنة تدريس مادة «الفيزياء» إلى غير رجعة، فلمّا استفهمت منها تنهدت وحارت في الجواب، ثم أوجزت بقولها: حضرت المشرفة لي درساً ولأنني كعادتي لا أتقيد بالمكتوب حرفياً، فحاولت أن أستفيض في الشرح وذكر تفصيلات توضيحية للطالبات كنت أتوقع معها الإشادة على اجتهادي الشخصي، ولكن المشرفة نحّتني جانباً وأصرت على تلقيني درساً: «التزمي بالمنهج ولا تتوسعين، فهذه فيزياء»، وإلى لحظتي لم أفهم ما قصدها ب«هذه فيزياء»! فهل عنت أن المواد العربية والدينية مسموح بالتوسع فيها؟ حسناً، فماذا عن المواد العلمية وفتح الأفق للحوار والابتكار والإبداع؟ ثم ختمت صديقتي كلامها: لم أقل إلا النزر اليسير، فهذا مجرد موقف ولك أن تقيسي عليه وتستشفي البقية، فلا تستغربي هجري التدريس، فأنا لا أريد أن أتألم أكثر. معلم كرّه تلميذه في لغة قرآنه فاستبعدها، ومشرفة نفذّت الأوامر حرفياً وربما زايدت عليها فخسرت معلمة ذكية ومجتهدة، كان من الممكن أن تسهم في تخريج طالبات ذكيّات ومجتهدات وربما مخترعات، وكما أعدمت اللغة والعمامة والطربوش بقرار إنسان كان له معها أكثر من ذكرى سيئة، لم تتوافق مع شموخ شخصيته وعنادها، وكذلك يكون الأمر مع طلاب وطالبات قد يكرهون تعليمهم ومدارسهم ومعلميهم ومن نصّبوا أنفسهم أوصياء على مناهجهم وأساليب تدريسهم وأنظمة تقويمهم، وحتى نفسياتهم، فتكون لهم سنوات ضائعة لا تمتزج بتفكيرهم وشعورهم، ولا تتناسب مع قامة الوطن، فهل هذا هو التعلّم... أو قل طموحنا بالعلم؟! [email protected]