لحظات عصيبة مر بها مراسل «الحياة» في منطقة عسير الزميل محمد الطفيل، حام فيها الموت حوله، عندما حاصرته السيول وهو يقطع الطريق «الوحيد» الذي يربط بين محافظة تثليت ومركز الأمواه التابع لها عند منتصف ليل أمس. نداءات استغاثة أطلقها الزميل ورفيقه مجدي العتيبي، من خلال الاتصال بفرق الإنقاذ والجهات المعنية، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، لعل أحداً ينتشلهما من فخ الوحل والماء، لكن معظم النداءات لم تجد مجيباً إلا بعد 8 ساعات من الحصار، ليكتب لهما عمر جديد. يروي الطفيل تفاصيل ما حدث: اتصلت بالدفاع المدني... اتصلت بالشرطة... بالهلال الأحمر، اتصلت بكل من له علاقة بعمليات الإنقاذ، وكانت الإجابة المؤلمة واحدة: «في أي نطاق أنت؟ من الممكن أن تكون تابعاً لنا، وربما لا»، ليبقى البلاغ معلقاً لساعات من دون أية جدوى. الأسئلة لا تجد جواباً من غرف العمليات، في حين أقبع أنا وصديقي في مستنقع من الوحل، تحيط بنا السيول من كل الجهات، بين محافظة تثليث ومركز الأمواه، ونافذة الهلاك تفتح ذراعيها لنا، كي نقفز فيها. يصل الدفاع المدني بعد البلاغ بأكثر من ساعتين، ومنسوب المياه يرتفع أكثر فأكثر، والسيارة عالقة، والأمر يزداد خطورة، رجل الأمن الذي باشر الحادثة قبلهم يؤكد أن «الناس نائمون، اتركوا السيارة، واقفزوا إلينا، وناموا حتى تشرق الشمس». لكنه لم يدرك أن الوحل والطين يجذبان المركبة شيئاً فشيئاً نحو القاع، بينما يتعالى منسوب المياه، ليصل إلى نوافذ السيارة. ساعات عصيبة تلك التي قضيتها أنا وصديقي مجدي العتيبي، كاد الأمل يغادرنا فيها، واستطاعت ثماني ساعات من الحصار أن تحوّل احتمالات الموت إلى تأكيدات، في حين كنا نقبع مع سيارتنا ننتظر فرجاً قريباً، تؤخره عقارب الساعة البطيئة. اليأس بدأ يعبث بي، خصوصاً من أجهزة الإنقاذ الحكومية، لم يكن من منقذ بعد الله من غرق محتمل سوى قراء «تويتر» و«فيسبوك»، بعد نداءاتي خلال الموقعين من قلب الحصار، الذي تضربه السيول حولي. اتصال قراء مواقع التواصل الاجتماعي بي واهتمامهم ومتابعتهم خففت المصاب لوهلة، إذ لم يتأخر اثنان من المواطنين يبعدان أكثر من 200 كيلومتر عن مكان الحادثة من القدوم، وجمعا كل ما يمكن أن يجمعاه لإنقاذنا. بعد ساعتين من نداءاتي عبر الإنترنت، وصل المواطنون الذين استجابوا لهذه النداءات إلى الموقع، ولكن للأسف حالت السيول دون وصولهم إلينا. زميلي مجدي العتيبي يعاني من أزمة ربو، والبرد الشديد يخنقه، كان يطلب الغوث، وكنت أطلب الغوث من الله، الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. واصلت محاولاتي، اتصلت بإمارة منطقة عسير، أكدوا لي «أن لا وجود لفريق طوارئ يتابع أحداث المنطقة، وعليك أن تنتظر حتى الصباح». نوبة الربو تشتد على صديقي مجدي، والسيارة تغوص أكثر في الوحل، وما من إنسيٍّ مغيث. كانت الدقائق تمر ببطء شديد، الوقت يمر بكل تفاصيله والأمل ينفد، ولم يعد لنا سوى أن نعلق أملنا بالله. انبلج الصباح، هدأت الأمطار، وبدأت مياه الوادي تنخفض، وبدأ وجه الفرج يشرق في الأفق، وهو ما حصل فعلاً، عندما أسهم عدد من الشبان والمتطوعين في إنقاذنا واحداً تلو الآخر. تركت كل ما أملك، واتجهت إلى اليابسة، حتى أصلي الفجر، بدأت أدرك أن نصائح أحد أفراد فريق الدفاع المدني الذي باشر الموقع قبل ساعتين من خروجي «مقنعة»، حين قال لي: «لا يهمنا ما تملك، بل ان نخرجك أنت فقط». لن أنسى تلك العبارة التي نطقها، بطريقة يندى لها الجبين «ما هو لازم تتصل في وقت مثل هذا! الله يعوض عليك، ليس من واجبنا أن نصل إليك، ولو عرفنا أن المسألة بهذا الشكل ما أتينا»، في حين أن 8 ساعات من الوقوف على حافة الهلاك (وقت الاحتجاز الذي بدأ من الساعة ال12 من منتصف الليل حتى الثامنة صباحاً) لا تعني له شيئاً! أدركت بكل ما يعنيه الإدراك، أن طرق الإنقاذ لدينا تحتاج إلى «إنقاذ»، فهي تفتقد كل الوسائل الحديثة، إذ لم يمض على وجود سيارة الدفاع المدني سوى نصف ساعة، حتى توقفت تماماً عن العمل، لأنها تحتاج إلى صيانة بحسب حديث المشرف على الفرقة، الذي اعتذر وقرر الذهاب إلى مقر مركز العرين قائلاً وهو يودعنا: «يبقى معكم رجل الأمن». كم يعتصرني الألم عندما أتذكر كل لحظة من لحظات الحصار، وكل محاولة شبه انتحارية لإنقاذ أنفسنا من يم جاءنا غفلة، لتكون أملاكي وظروفي وتلك اللحظات العصيبة «لا تعني شيئاً» لرجل الدفاع المدني. موقفنا لا يعني له شيئاً، فكل ما يحصل لي بسبب تهوري! على رغم أنني أسير في طريق رسمي يربط محافظة تثليث بمركز الأمواه، ولم أتجه إلى طريق بديل لأنه «لا بديل». لم تكن هناك أي سيارة ترشدنا أو تمنعنا من السير في الطريق، بل على العكس كان كل شيء مفتوحاً أمامنا للسير في الطريق، حتى سقطنا في مستنقع الوحل الذي كاد يبتلع أرواحنا وأجسادنا. انتظرنا فرجاً، وإذ بآخر يسقط بيننا ويعاني المعاناة نفسها. كل ذلك لا يهمني، ما يهمني أنني عايشت معاناة العشرات من المواطنين الذي فقدوا كل شيء، إذ فقدت محافظة تثليث والمركز الذي نحن فيه أكثر من 3 مواطنين في 24 ساعة بسبب السيول، والدفاع المدني في محافظة تثليث يجلي سكان بعض الأحياء، خوفاً من السيول، والمعاناة تزداد شيئاً فشيئاً. وبينما أحمد الله على السلامة، بعد أن خرجت بجسدي وذكرياتي المرة، مخلفاً ورائي ما يخصني وسيارتي، وإذ بعمليات الدفاع المدني في أحد رفيدة تتواصل معي بعد فوات الأوان، ليحدث هذا الحوار: المتصل: أنا عمليات أحد رفيدة. أنا: مرحباً أخي، أنا في حاجة للمساعدة. المتصل: أتمنى أن أخدمك بشيء، ووالله إني متعاطف معك. أنا: ممكن تتصلوا بالدفاع المدني التابع لمحافظة تثليث لإنقاذ سيارتي. المتصل: أهم شيء أنت. والإخوان في الدفاع المدني في مركز العرين سووا ما عليهم وراحوا. أنا: فريق الدفاع المدني في العرين حاول معنا لمدة ساعتين، وفي النهاية قالوا هذه ليست مهمتنا، أهم شيء اخرج والسيارة تلقى عليها تعويض. المتصل: وهم صادقون. أنا: يا أخي السيارة قريبة من اليابسة ويمكن لو تم إرسال معدة رفع، سيكون الأمر أفضل من الطريقة البدائية التي يعملون بها، ولتم إنقاذي أنا وسيارتي بسهولة. المتصل: أهم شيء سلمت. في أمان الله. غيرك كثير. في الحقيقة، أوحى الاتصال الهاتفي لي بشيئين، أن السلامة مهمة، وهو شيء جيد، لكن أن أفقد ما أمتلكه، وتكون كلمة التعويض هي السائدة من دون بذل أي جهود في تخفيف الخسائر، لأن الدفاع المدني أشار إلى أنه لا يهمه ما خسرت، وكأن الإنقاذ عملية تحصيل حاصل. ومما يجب ذكره أن مركز الأمواه يبعد عن أقرب نقطة إنقاذ أكثر من 70 كيلومتراً، في حين أنه يقع في منطقة وديان وشعاب ومساحته كبيرة مقارنة بمحافظة تثليث، فضلاً عن كون عمليات الإنقاذ في المركز «بدائية جداً»، وتعتمد على العلاقات الاجتماعية. الموقف كان أليماً ومخيفاً، ولا أستطيع التعبير عنه بما يصفه، كان المطر ينهمر بشكل كثير والسيول الجارفة تقترب والوضع لا يُحتمل، لكن الصبر والتواصل مع المتطوعين كان بالفعل مساهماً بشكل فعال في الحفاظ على أرواحنا بعد الرعاية الإلهية. لم أحصل على رقم الهاتف الخاص بمحافظ محافظة تثليث الأستاذ محمد الغثيم إلا في تمام الساعة الثامنة صباحاً، والذي أشار في الاتصال إلى أنه يتمنى لو تم الاتصال به وقت الحادثة. وأشار إلى أنه يبذل «جهوداً مضنية» هو وزملاؤه في مركز الدفاع المدني في محافظة تثليث لمساعدة المواطنين، على رغم اتساع رقعة المدينة ومراكزها. وقال: «فقدنا في محافظة تثليث ثلاثة مواطنين، ونقوم بإجراءات تعزيزية لمنع أي كوارث»، مشدداً على أن خدمة المواطن في أي مكان والحرص على ممتلكاته من أهم عناصر العمل، إذ تم توزيع العمل بتشكيل 6 لجان لحصر الأضرار، وطالبني بحصر الأضرار التي تعرضا لها ورفعها للجنة. * مراسل (&) في منطقة عسير.