بتوجس جديد دفعت زهرة مروة بمجموعتها الأولى «جنة جاهزة» الى النشر، تماماً كما هو حال الشبان اليافعين الذين يتحسسون بحذر مواطئ لأقدامهم وسط خليط غير مسبوق من التجارب الجديدة والمتفاوتة في أهميتها وحجم موهبتها. وعلى رغم أن مروة تكتب بغزارة لافتة تتغذى من فوران الحياة في داخلها كما من رغبتها الملحّة في الانضمام الى نادي الشعراء فقد خفف من اندفاعتها تلك شعور حقيقي بالمسؤولية المترتبة على ما تنشره في كتاب مستقل لن يكون في مستطاعها تغييره أو التنصل منه في المستقبل. لذلك لم تتردد الشاعرة في حذف الكثير من النصوص المربكة أو المتسرعة مستعينة بذائقتها النقدية الشخصية من جهة وبالكثير من أصدقائها الشعراء والنقاد من جهة. وأعتقد أن هذا الأمر لا يضيرها بل يحسب لها لا ضدها، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن شعراء كباراً ومكرسين قد فعلوا الشيء ذاته ومن بينهم ت.س. إليوت الذي أشار عليه صديقه عزرا باوند بحذف فصول عدة من رائعته الشهيرة «الأرض الخراب». الآن وقد جمعت زهرة مروة قصائدها بين دفتي كتاب، صدر عن دار الغاوون في بيروت، أستطيع أن أقول من دون تردد إنني وجدت نفسي إزاء عمل شعري متميز ومفاجئ في جدّته وطزاجته وتلمسه لأرض الحياة الحقيقية بعيداً عن برودة التأليف وبلادة الأفكار المعلبة. وعلى رغم أنني كنت واحداً ممن اطلعوا مسبقاً على معظم قصائد المجموعة، فقد حيرني بالفعل أن تظل المتعة المتأتية عن القراءة في نفس منسوبها السابق وأن تفصح النصوص عن مستويات للكشف والتخييل لم تكن متوافرة في القراءة الأولى. والطريف في هذا السياق أن السلوك الطفولي العفوي للشاعرة لا يمكنه أن يشي بالرؤية النافذة إلى الوجود والأشياء التي تمتلكها كتابتها، ما يؤكد مرّة جديدة الفجوة العميقة بين الأداء السلوكي الظاهري للكاتب وبين عالمه الداخلي الذي يمور بالكثير من الأسئلة والتهيؤات. قد تكون بعض نصوص «جنة جاهزة» أقرب الى التعريفات الأولية التي وضعتها سوزان برنار لقصيدة النثر من نصوص كثيرة مكرسة ومعروفة. قلت بعض النصوص وليس كلها لأن الشاعرة الشابة ما زالت في بدايتها وما زال لديها متسع من الوقت للتخفف من الحمولة الزائدة أو من السرد التقريري والشروح التفسيرية. لكن السواد الأعظم من القصائد يجانب هذه المزالق ويجنح الى التكثيف والحذف والتنامي الداخلي للقصيدة التي يتحول بيتها الأخير إلى ما يشبه الضربة الأخيرة والحاسمة لريشة الرسام، من دون أن يحرم القارئ من فرصته في التأويل أو إعادة القراءة. ولعل إشكالية الكتابة نفسها هي احد الموضوعات الأثيرة لدى مروة التي تتكرر في غير وجه من الوجوه وتعكس حيرة الشاعرة في انتقاء عباراتها وصورها. ففي قصيدة الخزانة تقول الشاعرة: «أفتح الخزانة وأجد أفكاراً كثيرة/ لا ألبسها كلها/ أرتب بعضها/ وأؤجل بعضها الآخر الى حفلات تستحق/ هناك أفكار مجنحة وأفكار راسخة كالجدران/ ما من حجاب في الخزانة يفصل بيني وبين أفكاري/ لكن ثمة رفات أفكار شهيدة/ وهناك أفكار تحوم تحويماً/ لا ألتقطها ولا تلتقطني/ يفصل بيني وبينها الهواء». هذا البرزخ الصعب بين الحضور الهلامي للكتابة وبين تحققها على الورق يؤرق زهرة مروة في شكل واضح كما يؤرق الشعراء في وجه عام. ذلك أن الكلام في مصدره الظني وهواجسه الجنينية أكثر تمثيلاً لروح الشعر منه على الورق حيث المحلوم به يخلي مكانه للواقعي والمتحقق. وهو ما تعبر عنه الشاعرة بقولها: «الفكرة امرأة تحتفظ بجنينها/ ولا ترتبك بوليد قد يسخرون منه / أو يدمر حياتها/ الفكرة سفينة تشقُّ البحر/ ولا يرفرف فوقها علم». خلافاً للكثيرات من بنات جيلها كما من أجيال الحداثة السابقة لا تقع زهرة مروة في فخ الإغواء الإيروتيكي ولا تحول الرغبات الجسدية الى محور أساسي للخطاب الشعري، من دون أن يعني ذلك تغيباً للجسد أو قهراً لنوازعه وشهواته. ومن يقرأ قصائد الشاعرة بإمعان لا بد من أن يلحظ قدرتها اللافتة على صهر العناصر المتباينة التي تقاربها تلك القصائد بحيث لا يعود الجسد بحد ذاته الرافعة الوحيدة للكتابة بل يندمج مع جسد الحياة الاوسع ومع فورانات الروح الظامئة الى الارتواء. وعلى رغم نزوع الشاعرة التي لا تزال في أواخر العشرينات من عمرها، الى التمرد والتحرر من ربقة التقاليد، إلا أن قصائدها تشي بقدر من النضج قلَّ أن يتوافر لمن هن في هذه السن. إذ ثمة دفء بالغ في العلاقة مع الرجل يتجاوز الشهوات الجامحة ليلامس ما هو حميمي وإنساني. وهو ما يبدو جلياً في قصيدتها «عند الممر» حيث تخاطب مروة صديقها الذي يكبرها سناً بالقول: «كانت بسماتي واحات لروحك المنهكة/ جوابي البليغ على نيرانك/ وكنت تأتي ومعك بيوت للألفة/ كنتُ الجسر الوحيد الذي يصلك بصباك/ وأنت الصدى الذي يعكس لي غدي». مثل هذه اللفتات الإنسانية سنرى نظائر لها في الكثير من قصائد المجموعة حيث تندفع الشاعرة بحس أمومي لم تختبره على المستوى البيولوجي للحدب على الآخرين الذين يواجهون في الخانات الأخيرة من أعمارهم استحقاقات الشيخوخة القاسية. وهو حدب يظهر بجلاء في قصيدتها عن جدتها المسنة التي تتعلم بأحرف الحياة البسيطة والتي «كلما عبث هواء بضفائرها/ تساءلت إن كان من صوب الحياة أو الموت». تبدو الحياة عند زهرة مروة كما لو أنها مرئية بعيني الطفلة التي كانتها. ليس فقط لأنها تصرح هي نفسها بذلك في قصيدتها «طفلة الحياة» ولا لأنها تعد بنسيان الدنيا بحبة سكاكر، كما تعبر في القصيدة، ولكن لأن العالم بالنسبة اليها صاف وأثيري لا تلوثه الأوبئة ولا تكرره الحروب. انه عالم مشمس مثل نوافذ «البيوت قرب المقهى». وفي هذا العالم تمحي ثنائية الطهر والخطيئة، الجنس والموت، الجريمة والعقاب، ليتوحد الجميع في المياه ذاتها التي تهب للحياة براءتها وللشعر انبثاقه التلقائي. وعلى رغم أن الشاعرة تدين لموهبتها قبل اي شيء آخر بما تكتبه من نصوص، فإن ظلالاً خفية من أنسي الحاج تتسرب الى قصائدها، ليس فقط من خلال هدم الجسور الفاصلة بين الثنائيات الضدية بل من خلال تحويل الكتابة الى خلاصات مكثفة وقريبة الى الحكمة، من قبل: «ما من ضحكة تولد/ إلا يكون هناك ثغر لاستقبالها»، أو «أسهل علي أن أكون كذبة من أن أكون حقيقة ناقصة» أو «المواسم الجديدة تولد بعد الحرائق الكبرى». ومع ذلك فإن من الظلم أن نضع تجربة زهرة مروة داخل عباءة أي من الشعراء السابقين لأن هذه التجربة تنبثق بالدرجة الأولى من أرض فوارة بالخصب وتحفل في الوقت ذاته بالكثير من الوعود.