تسببت سنوات من الحرب الأهلية في تجريد اقتصاد سريلانكا من السيولة النقدية، وعلى رغم حزمة الإنقاذ التي قدمها صندوق النقد الدولي إلى الجزيرة-الدولة (2.8 بليون دولار) بعد فترة وجيزة نسبياً على انتهاء المعركة الحاسمة التي شنها الجيش على متمردي «جبهة نمور تحرير إيلام تاميل» في أيار (مايو) 2009، لا يزال اقتصاد البلاد يترنح، فارتفعت مستويات التضخم في شكل سريع، واشتعلت المنازعات حول رواتب العاملين في القطاع العام. وفي محاولة يائسة لكسب العملة الأجنبية، شنت الحكومة حملة كبرى لاجتذاب السياح من مختلف أنحاء العالم. لكن الاقتصاد الضعيف الذي يعتمد على القروض الخارجية كان سبباً في زيادة الضغوط الرامية إلى حمل سريلانكا على التحقيق في مزاعم في شأن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال المعركة الحاسمة، التي تقترب ذكراها السنوية الثالثة. وتبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قبل أيام قراراً تقدمت به الولاياتالمتحدة، يدعو سريلانكا إلى ملاحقة الذين يعتقد انهم ارتكبوا انتهاكات خطيرة خلال المرحلة الأخيرة من النزاع الذي بدأه انفصاليون من أقلية التاميل (18 في المئة من السكان) عام 1983، وتسبب بمقتل ما لا يقل عن مئة ألف شخص، ما يمهّد الطريق إلى مزيد من الضغوط الاقتصادية. واتهمت منظمة العفو الدولية في تقرير صدر قبل أيام أيضاً حكومة سريلانكا باحتجاز مئات الأشخاص في الاعتقال التعسفي وبمعزل عن العالم الخارجي وجعلهم عرضة للتعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء، على رغم انتهاء الصراع في البلاد قبل فترة طويلة. بيد أن الحرب كانت بلا شهود، إذ منعت الحكومة الصحافيين والمراقبين المستقلين من دخول منطقة الحرب. وعلى رغم ذلك، تشير تقديرات الأممالمتحدة إلى أن أكثر من سبعة آلاف من غير المقاتلين قتلوا في الأشهر الأخيرة من الحرب، حين اجتاحت القوات الحكومية قواعد «النمور». لا تزال المكاسب الاقتصادية للسلام بعيدة المنال، ولا أدل على ذلك من قرار الحكومة المضي قدماً في خطط توسيع المؤسسة العسكرية الضخمة بالفعل، فالمؤسسة العسكرية في سريلانكا أكبر في تعداد قواتها من المؤسستين العسكريتين البريطانية والإسرائيلية، إذ توسعت إلى خمسة أضعافها منذ أواخر الثمانينيات حتى بلغ تعدادها أكثر من مائتي ألف جندي اليوم. وتستند حجج زيادة هذه القوات إلى ضرورة «اليقظة الدائمة». ومع التضخم المتزايد للآلة العسكرية التي تدعمها مليشيات على مستوى القرى، فإن المجتمع المدني هو الخاسر الرئيس، فضلاً عن ذلك، فإن إجراءات الطوارئ الصارمة لا تزال سارية، مع تسليح قوات الأمن بسلطات متوسعة تشمل البحث والاعتقال ومصادرة الملكيات. ومن الممكن حتى الآن أن يوضع الأفراد رهن الاعتقال غير المعترف به لمدد قد تصل إلى 18 شهراً. ويمثّل كل ذلك «أنباءً سيئة» بالنسبة إلى الاقتصاد. في سريلانكا، ذات الغالبية السنهالية، التي تدين عموماً بالبوذية، على خلاف أقلية التاميل التي تدين إجمالاً بالهندوسية، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 59 بليون دولار، فيما تساوي حصة الفرد منه سبعة آلاف دولار سنوياً. ويمثّل القطاع الزراعي 12.6 في المئة من الناتج. ويزرع السريلانكيون الرز وقصب السكر والحبوب والفواكه والتوابل والخضروات والشاي والمطاط وجوز الهند، ويربّون الماشية والأسماك. ويشكّل القطاع الصناعي 29.7 في المئة من الناتج. ومن بين أهم الصناعات، تبرز معالجة المطاط والشاي وجوز الهند والتبغ وغيرها. وتعتبَر قطاعات الاتصالات والتأمين والخدمات المصرفية والسياحة والمنسوجات والإسمنت وتكرير النفط والخدمات وتكنولوجيا المعلومات والبناء، قطاعات واعدة. في عملها الحديث «النزاع الانفصالي في سريلانكا: الإرهاب والإثنية والاقتصاد السياسي»، تقدِّم أسوكا بانداراج، أستاذة السياسات العامة في جامعة جورجتاون الأميركية، والمتحدرة من أصول سريلانكية، تاريخاً تحليلياً مفصلاً للحرب الأهلية، مع قراءة معمقة للتداعيات الاقتصادية ومستقبل الاقتصاد في الجزيرة-الدولة التي تعاني أحد أعلى مستويات الفقر في العالم. وعلى رغم أن معدل النمو الاقتصادي يعتبَر من بين المعدلات الأسرع في المنطقة (8.2 في المئة)، فإن احتمال تجدد النزاع الانفصالي لا يزال راهناً، علماً أن سريلانكا شهدت ثورتين ماركسيتين عام 1971 وما بين عامي 1987 و1989. وتشدد على أن غياب إطار موحد للسياسات الاقتصادية منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1948، فتقلبت هذه السياسات ما بين ليبيرالية وشبه اشتراكية، يعتبَر من أسباب الضعف الاقتصادي المستشري في البلاد، الذي دفع الدولة إلى حافة الإفلاس عام 2001، مع بلوغ نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 101 في المئة. واضطرت الحكومة آنذاك إلى إعلان وقف لإطلاق النار مع «النمور» وفرض سياسة اقتصادية طارئة قضت بإنتاج الرز ومزروعات أخرى في شكل مكثف لتلبية الطلب المحلي وتجنب الاستيراد. وتجنب المصرف المركزي السريلانكي السنة الماضية رفع أسعار الفائدة، الذي لجم النمو الاقتصادي في دول مجاورة، ما عزز الاستثمار، خصوصً من بلدان أجنبية، تأتي الهند في طليعتها. وقفز عدد السياح بنسبة 35 في المئة، مقارنة بعام 2010. لكن بانداراج تنبه إلى أن ما يبدو إنجازات اقتصادية سيبقى مهدداً ما لم تترافق مع عملية تعزز السلم الأهلي وإرخاء للقبضة الأمنية والعسكرية على المجتمع المدني. * كاتب متخصص في الشؤون الديموغرافية - بيروت