في مشهد مثير للانتباه، تكتسح الكتب الدينية والمجلات المهتمة بالشأن العقائدي المكتبات التونسية التي تمتلئ واجهاتها بدراسات وبحوث تقطن غالبية مؤلفيها في المشرق العربي، وهذا ما لم يكن مألوفاً قبل كانون الثاني (يناير) 2011. فبعد سقوط الرقابة، مع النظام السابق ورأسه زين العابدين بن علي، على استيراد الكتب غير المتطابقة ورؤية الحكم المخلوع للأديان، والإسلام تحديداً، تتصدّر المكتبات حالياً مؤلفات تهتم بموضوعات مثل تفسير القرآن والأحاديث النبوية، وأخرى تُعنى بالجانب الدعوي والأخلاقي، إضافة إلى كتيبات صغيرة تشرح أركان الإسلام وأساسيات العقيدة بأسلوب مبسط وسلس. الغثّ والسمين ساهم إلغاء الرقابة في فتح سوق الكتاب على مصراعيه. وطبيعي، في هذه الحالة، أن يختلط الغثّ بالسمين، لكن الظاهرة تبقى جديرة بوقفة للتأمل والفهم. فعلى قارعة الطرق، أمام غالبية المساجد، تصطف عناوين كتب دينية، تتفاوت مصداقيتها وعلميّتها في تناولها السلوكيات والأخلاق الواجب إتباعها. والملاحظ هو محاولة إضفاء «هالة» إيمانية ما على «مكتبات الرصيف» تلك من خلال بيع أنواع مختلفة من الجلابيب للرجال وأقمشة الحجاب والنقاب للنساء، على الأرصفة ذاتها، ما يخلط التجارة بالوعي الديني. أمام واحدة من تلك المكتبات، يقف شاب أفغاني الهندام، ذو لحية كثّة، يرتّب سبحات معروضة للبيع فيما يقول ل «الحياة»: «في زمن بن علي، كان محظوراً علينا بيع هذه الكتب التي تنشر تعاليم ديننا الحنيف، أما اليوم ومع تولّي حزب إسلامي السلطة، أصبح في إمكاننا بيعها بلا خوف من منع أو سجن». وأضاف: «تأتي هذه الكتب عموماً من دول المشرق، ويحظى استيرادها بتسهيلات كبيرة من الجمارك على عكس ما كان يحدث في السابق». من جهة أخرى، تشهد تونس ظاهرة تدنّي نسب المطالعة. ويشير وزير الثقافة السابق، البشير بن سلامة، إلى أن معدل عدد النسخ المطبوعة من كتاب واحد تدهور، فبعدما كان ثلاثة آلاف نسخة في الثمانينات، أصبح اليوم في حدود الألف نسخة فقط. لكن وزارة الثقافة الحالية تفيد بأن شبكة المكتبات العامة يؤمّها سنوياً نحو أربعة ملايين شخص، 90 في المئة منهم تلاميذ مدارس وطلاب جامعيون، ويهتم هؤلاء أساساً بالقراءات المرتبطة بمجالات دراساتهم أو بحوثهم. أما الإقبال على الكتب الفكرية أو الأدبية أو العلمية، من خارج المنهج الدراسي، لصقل الأفكار وبناء المعرفة، فيعدّ سلوكاً محدوداً، خصوصاً مع اكتساح التكنولوجيات الحديثة حياة التونسيين واحتكارها جزءاً كبيراًَ من وقتهم، علماً أن تونس تحتل المرتبة ال128 من حيث معدّل القراءة، في قائمة من 180 بلداً، بحسب تقرير برنامج الأممالمتحدة الإنمائي لعام 2009. إلا أن الثورة كانت نافعة نسبياً بالنسبة إلى أصحاب المكتبات. إذ تزايد الإقبال، وإن في شكل بسيط، على اقتناء الكتب لمواكبة الأحداث الجارية بسرعة لافتة في تونس، وبغاية فهم عدد من القضايا التي أصبحت مدار حديث وسائل الإعلام وجزء كبير من الطبقات الشعبية، بعدما كان يحظّر الحديث عنها في السابق، ويخيّم الخوف على فكرة تناولها قراءةً أو كتابة. فموضوعات الفساد والهوية والإسلام السياسي والديموقراطية لم يكن من اليسير التطرق إليها في العهد السابق. وبفضل هامش الحرية المكتسب أخيراً، تمكنت النخبة التونسية من الكتابة في هذه المواضيع ونشر أفكارها عنها، من دون الاصطدام بحواجز، لا في النشر ولا في بلوغ القرّاء. الزبائن 3 أنواع يقول أحد العاملين في مكتبة «الكتاب»، وهي واحدة من أشهر المكتبات في العاصمة تونس: «بعد الثورة، عاد التونسيون ليهتموا بالكتاب، وبكثافة، خصوصاً الكتب التي تشرّح فساد النظام السابق، إضافة إلى البحوث المتعلقة بالأحزاب التونسية تزامناً مع فترة انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الأول (أكتوبر) 2011... واليوم تلقى الكتب التي تغوص في مسائل الحداثة والدين رواجاً لافتاً، لكن يبدو أن الاهتمام بالكتب مرتبط بالحدث السياسي أو الاجتماعي الراهن وليس اهتماماً متواصلاً بالمطالعة والمعرفة». ويضيف: «لاحظنا في المكتبة هنا أن الزبائن باتوا ينقسمون إلى أنواع ثلاثة: المثقفون الذين يهتمون عادة بالكتب الفلسفية أو البحوث العقلانية، وهؤلاء نعرفهم من قبل لكنهم اليوم أكثر ارتياحاً في الانتقاء والشراء، وثانياً هناك المتدينون الذين يبحثون غالباً عن كتب حول أصول الدين، وهم نوعان: جزء يبحث عن كتب المجددين في الدين، أمثال الفاضل بن عاشور والطاهر حداد وعبد المجيد الشرفي، والنوع الثاني لا يرغب سوى في الكتابات السلفية أو ما يسمى «الكتب الصفراء». أما الفئة الثالثة، فجديدة، ولم تكن موجودة قبل سقوط النظام، وهي القرّاء الذين انقطع جلّهم عن الدراسة في سن مبكرة وانقطعت علاقتهم مع المطالعة لسنوات، ويبدو أنهم قرّروا أخيراً استعادة العلاقة مع الكتاب بهدف تكوين ثقافة ذاتية، تخوّلهم تكوين آرائهم بأنفسهم، بمنأى عن المرجعيات الدينية والإيديولوجية». وفي ظل تلك الظواهر المستجدّة في عالم الكتب والمطالعة، يزداد التخوف من عودة الرقابة في ثوب جديد، تزامناً مع انتشار التزمّت والتعصّب لدى قطاعات واسعة من المجتمع. فنظمّت أخيراً تظاهرة سلفيين أمام مكتبة في وسط العاصمة تونس احتجاجاً على نشرها كتباً «تروّج للفكر الشيعي»، وقام مجهولون بتشويه الواجهة الزجاجية لإحدى المكتبات في ضواحي العاصمة بعدما نشرت كتاباً تضمّن صورة للوحة زيتية فيها امرأة متخفّفة الملبس.