ينمّ عنوان رواية «ليكن صباحاً» للروائي الفلسطيني سيد قشوع ذات الأصل العبري، والمترجمة عن الفرنسية (ماري طوق) – دار الساقي،عن محاكاة الإصحاح الأول من سفر التكوين، المعبّر عن إرادة الخلق. كذلك «ليكن صباحاً» بداية حقبة جديدة يتولى فيها الفلسطينيون زمام حكم بعض مناطقهم التي جلا عنها الاحتلال الإسرائيلي، عقب توقيع معاهدة السلام. وككلّ بداية، فإن هذه الحقبة التدشينية محفوفة بالمخاطر والعثرات والصعوبات. بيد أن الرواية لا تتطرّق إلى هذه المرحلة المفصلية، بل إلى الظروف والأحداث التي سبقتها وأفضت إليها، وتدور في قرية عربية كانت تحت الحكم الإسرائيلي المباشر، قبل أن تُعاد في نهاية الرواية إلى السلطة الفلسطينية. وكان من البديهي أن يلقى مثل هذا التحوّل استجابة طيبة لدى أهل القرية. لكننا نباغت بردّة فعل تخالف المتوقع، حيث يُحبط والد الصحافي، وهو مفتش متقاعد في وزارة التربية الإسرائيلية، لإنه يرى أن اسرائيل هي المكان الملائم للعمل والإقامة وإحلال النظام، بينما يتوجس من الدولة الفلسطينية الوليدة ومن عدم قدرتها على ضبط الأوضاع، ونصب موازين العدالة. أما الأم، فتسند خدها بيدها اليسرى وهي صامتة، ويردد الأخ الأكبر أنها مشيئة الله، في حين يحتدّ السمّان محتجاً «بأن اليهود باعونا». في حين يبدو الاتفاق صفقة مربحة للإسرائيلي، فهو بتخليه عن هذه المناطق، يُبعد عنه كأس الأصولية التي بدأت تطغى مظاهرها على نمط حياة سكان الأرض المحتلة. رواية سيد قشوع، وهو كاتب وصحافي فلسطيني يعمل في جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، تُظهّر العلل الاجتماعية التي تنتاب المجتمع الفلسطيني الداخلي بكلّ ما فيه من انحرافات وجنوح وعنف مستبطن، كذلك ترسم الوقائع اليومية لمعاناة الفلسطينيين مع المحتل، الذي يقطع التيار الكهربائي والماء عن القرية التي تدور فيها الأحداث لأسباب مجهولة. تتقاطع في الرواية بعض ملامح من سيرة الكاتب الذاتية، وسيرة شعبه الذي يتمزّق بين هوية مفروضة عليه وبين هوية مرتجاة. ويُنزل القاص سوية الصراعات من مآلاتها المصيرية الخطيرة إلى خصومات حول مسائل الشرف والميراث والأعمال الثأرية بين الأهالي، والمنازعات العائلية على السلطة المحلية، وتصفية الحسابات، فالحروب الكبيرة لا تُنسي هؤلاء صراعاتهم المبتذلة اليومية. ليس العربي الفلسطيني في الرواية من صنف الملائكة، بل هو مثل كلّ العرب في أقطارهم يعاني الأمراض الاجتماعية عينها. وعلاوة على ذلك، تتجاذبه نزعة الحفاظ على خصوصيته الفلسطينية، ونزعة التماهي مع اليهودي. وهو منصاع مثل سائر البشر في العالم، للتطور المعولم الحاصل اليوم، ومهووس بالاستهلاك الرخيص والرفاهية الخادعة. يعرّي قشوع بطله الفلسطيني الذي يعيش تحت ضربات المطرقة الإسرائيلية من أيّ ادعاء بطولي، أوتبجّح فارغ، فهو ينكفئ إلى حياته الخاصة، ساعياً إلى تحصيل رزقه، ولو كان أحياناً على حساب مواطنيه من فلسطينيي الضفة وغزة، حيث إن الجنسية الإسرائيلية التي يحوز عليها، غدت عنده مصدر رزق، وتحوّل كثيرون من مواطنيه إلى سماسرة وأرباب عمل، يتعهّدون العمال الفلسطينيين الآتين من خارج مناطق الاحتلال، عن طريق كفالتهم. وبقدر ما كان الوضع الاقتصادي يتردّى في الأراضي الفلسطينية ويزداد سوءاً، كان وضع عرب إسرائيل يزداد بسطة في الرزق. هل نتحدث عن شعب واحد، ومصير واحد، وقضية واحدة؟ مشهد تراجيدي بل يبلغ الهوان والضعف والمذلّة حدّاً يدفع أبناء القرية، إلى الانقلاب على إخوانهم من العمال الفلسطينيين الذين كفلوهم، فيتخلصون منهم بتسليمهم إلى جنود الاحتلال بناءً على طلبهم لأنهم يخشون ارتكابهم أعمالاً مخلّةً بالأمن. ينقلب أهل القرية الذين تظاهروا قبل يوم في شوارع قريتهم ضد اسرائيل، ولوّحوا بالأعلام الوطنية والقومية والشعارات الحماسية، ينقلبون على أبناء وطنهم لقاء وعد من الإسرائيليين بإعادة التيار الكهربائي والمياه إلى البلدة، بل يمارسون على العمال أشنع الأعمال، حيث يجرّدونهم من ثيابهم ويتركونهم في سراويلهم الداخلية، ويضربون بعضهم بالهراوات، ويكيلون لهم الشتائم لطمأنة الإسرائيليين. وتتجلى في هذا المشهد «التراجيدي»، الذي يتصارع فيه الفلسطيني مع أخيه الفلسطيني أقصى اللحظات قساوة ومفارقة في الرواية، مشهد صنعه طرفان: دهاء العدو وصلفه من جهة، وإذعان الفلسطيني وضعف حيلته من جهة أخرى. ورغم ذلك، أردى الإسرائيليون اثنين من العمال، وظلّ الحصار مفروضاً على القرية أياماً عدة. في ظلّ الحصار هذا الذي يعبّر عن روح الانتقام عند الإسرائيليين، يتتبّع الروائي عبر سرديته، التي تتوسّع دون استفاضة او استطراد، ضنك الحياة المعيشية والحياتية، وانسداد مساراتها التلقائية، حيث غدت أكثر عسراً، وأضحى المرء لا يحصل على أولويات العيش من مأكل ومشرب ونظافة إلا بكثير من التعنّت، ومزيد من التقشف. وقد احتلّت هذه الأوضاع المزرية فصولاً كاملةً من الرواية، حيث يصف قشوع كيف كان الأهالي يرفعون القاذورات، ويصلحون المجاري الصحية، ويؤمّنون الماء، ويتهافتون على شراء المواد الغذائية، بل ويهاجمون منزل الصحافي ليستولوا بالقوة على ما ادّخره من طعام ومؤن. ثم يصف السارد الحالة النفسية المبتهجة التي سادت أهل البلدة لحظةَ إعادة التيار الكهربائي إلى المنازل، وتدفق المياه مجدداً في الأنابيب والحنفيات. سردية قومية لم يحجب الحصار، على خطورته، الضوء الذي يلقيه السارد على الأمور الثانوية التي تنشغل بها طائفة من سكان البلدة، كأن تنتظر بفارغ الصبرعودة التيار لتتابع المسلسل المصري على إحدى القنوات الفضائية. كان الحصار فرصة لاختبار النفوس والإرادات، واكتشاف معدن الناس، وكان معظمهم يؤكدون أن كلّ شيء سيصطلح في نهاية المطاف. لا سيما الأب المقتنع بأن الأمور إذا ساءت فستعود إلى سابق عهدها، والحياة ستسلك مسارها الطبيعي. هذه الثقة ناجمة عن إيمانه بالدولة الإسرائيلية، لا سيما أن حزب العمل كان على رأس الحكومة آنذاك، وكان هو من بين محازبيه، وإذ اتُّهم بالخيانة، فإنه صعُب وضع معيار يفصل بين العمالة والوطنية، بين الواقعية البراغماتية والموقف الأيديولوجي، فما كان يُحسب خيانة في الفترة الأولى من الاحتلال، ما لبث أن أصبح أمراً مشروعاً وذكاء عملياً. ولعلّ هذا الالتباس مرده سياق تربوي خضع له فلسطينيو الداخل طلبة وأساتذةً، فعملية التثاقف، أو غسل الأدمغة تجري على قدم وساق، من خلال فرض تدريس التاريخ اليهودي على الناشئة الفلسطينيين، وضرورة إلمامهم باللغة العبرية. وتبدو زوجة الصحافي، وهي معلمة جغرافيا في إحدى المدارس الرسمية، مرآة لما يعكسه المجتمع اليهودي عن نفسه وعن تاريخه، وعمّا يرسمه من وجوه خادعة وأحداث مختلقة أو مزيفة. المشكلة ليست في الإذعان لقوانين المحتل وأوامره، بل في فرض سرديته القومية، عبر تنشئة الأجيال العربية على استبدال تاريخهم ورموزهم بتاريخ الإسرائيليين ورموزهم. وزوجة الصحافي تمثّل عيّنة من هذا الجيل المهجّن ثقافياً، فهي كمعلمة تعلم طلابها العرب تاريخ «الحالوتسيم» (الرواد الصهاينة) ودور الصندوق اليهودي، من دون أن تمتلك أدنى فكرة عن خلفية الموضوعين. والمرأة على ما يقول زوجها الصحافي: «تعتبر أن كل ما تقوله الكتب صحيح»، وهي تعلّم من دون أن تطرح على نفسها أسئلةً عن صحة ما تعلّمه لطلابها الفلسطينيين، فالأدوات المتوافرة لترسيخ أقدام الاحتلال لا تقتصر على الأدوات العنفية، بل على استخدام القنوات الثقافية. ورغم ذلك ما فتئ الجيل الفلسطيني في الداخل عصيّاً على التطبّع الكامل، لكنه يعيش حياةً قلقةً، من دون ان يجد بوصلة يهتدي بها. «ليكن صباحاً» هي عين الصحافي العربي وهو ينقل بتجرّد وموضوعية أحداثاً داخل البلدة الفلسطينية التي تتأرجح على الحدّ الفاصل بين فلسطينيتها وإسرائيليتها، كما هي حال الصحافي نفسه، الذي يحاول أن يتساوى مع زملائه الصحافيين اليهود في الجريدة من دون جدوى، كما لا يفلح عند العودة إلى قريته الفلسطينية إلى جوار أهله وأصدقاء طفولته وزملاء مدرسته، في استرجاع جذوره الوطنية والمحلية. تتميز كتابة قشوع، حينما يتطرّق الى الأحداث والوقائع العسكرية أو السياسية، بحيادية الإعلامي ومهنيته، وبأسلوب يشبه الريبورتاج الصحفي. وهو يكتب بلغة سلسة ذات منحى حكائي، عندما يتعلق الأمر بجانب من تاريخ القرية وعلاقات عائلاتها بعضها مع بعض. وحين يعرّج على مرحلة التلمذة لدى بطله، واكتشاف رغباته الجسدية في فترة المراهقة وصبواته الجنسية مع صديقه باسل، تتكاثف في أسلوبه الشحنة العاطفية والوجدانية. وتنحو قصته مع جدّيه الى حالة تشبه الفنطازيا. كذلك قصة الرملاوي، جارهم في ايام الطفولة وأطواره الغريبة، وجارتهم ابتسام الملقبة بالذبابة المزعجة... كلّ ذلك يشكل صورة ساطعة لبلدة فلسطينية هي أنموذج حيّ لمعاناة البحث المضني عن هوية مستقرة، تحدوها عزيمة شعب يريد أن يطوي صفحة مظلمة من تاريخه تحت الاحتلال الإسرائيلي، بانتظار انبلاج فجر جديد.