أصبحت الأزمة السورية تهدد الأمن والسلم العالميين بعد أن اكتسبت التطورات بعداً أكثر مأسوية نتيجة المواقف المتعنتة للنظام السوري. هذا جزء من تصريح لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو. أما الجزء الذي جانب فيه الصوابَ المسؤول وأستاذ النظرية السياسية ومهندس السياسة الخارجية التركي، فقوله «إن السبيل الأمثل للتعامل مع الأزمة السورية يأتي عبر تبني المجتمع الدولي ككل موقفاً موحداً»، وحينذاك سيدرك نظام الأسد أن الإصرار على سياسته الحالية سيؤدي في النهاية إلى مزيد من سفك الدماء، لا شيء آخر. ويبدو أن أستاذية أحمد داود أوغلو وكفاءته الأكاديمية تجنحان به نحو الإيغال في المثالية، في حين أن السياسة لا تعرف المثالية، ونقصد هنا تحديداً السياسة الدولية. فليس هناك في العلاقات الدولية ما يعرف بالسبيل الأمثل للتعامل مع الأزمات، ولكن هناك السبيل الواقعي والمنهج الموضوعي لحل الأزمات، أو حتى لإدارة الأزمات. كما أن في السياسة الدولية الموجهة للتعامل مع الأزمات، لا يعرف ما عبر عنه الدكتور أوغلو ب «الموقف الموحد»، خصوصاً في الأزمات الكبرى مثل الأزمة السورية التي لم يفلح مجلس الأمن في إصدار قرار في نطاق الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، في شأن الوضع المتفجر فيها، بسبب من الفيتو المزدوج الروسي والصيني. وليس ثمة في الأفق ما ينبئ بأن مجلس الأمن سيتخذ في المدى القريب القرار الحاسم الذي ينتظره منه المجتمع الدولي. فهل يقف العالم عاجزاً أمام الأحداث المرعبة التي تقع يومياً في سورية في انتظار «الموقف الموحد» الذي قد يأتي أو لا يأتي؟ وهل يظل العالم ينتظر الوصول إلى «السبيل الأمثل» للتعامل مع هذه الأزمة والمئات من المواطنين السوريين يقتلون يومياً ببشاعة في كل المدن والقرى والبلدات السورية؟ الدكتور أحمد داود أوغلو مثقف أكاديمي عالم وأستاذ مبرز في العلاقات الدولية، وهو كفاءة علمية عالية المستوى في مجال تخصصه الأكاديمي. وقد سبق لي أن قرأت كتابه المرجع «العمق الاستراتيجي» فقدرت علمه الواسع ودرايته العميقة بالقضايا السياسية والجغرافية والبشرية والتاريخية والثقافية والحضارية المتعلقة بالمنطقة الحساسة التي تحتل فيها بلاده تركيا موقعاً ذا مميزات فريدة. ولكن التعمق في علم السياسة، ليس هو ممارسة السياسة، والأستاذية في النظرية السياسية وفي الفكر الاستراتيجي، لا تكفي صاحبها لممارسة السياسة الدولية بكفاءة عالية. فمثلاً يردد الدكتور أوغلو دائماً عبارته الشهيرة «تصفير المشكلات»، وهو مفهوم مثالي غير واقعي؛ لأن المشكلات ستظل قائمة في العلاقات الدولية، تتطلب التعامل معها بواقعية، أو بما يمكن أن نطلق عليه «الإدارة الجيّدة للمشكلات»، أو إذا شئنا أن نأخذ بالمفهوم السائد في علوم الإدارة، قلنا «إدارة المشكلات بالأهداف». أما تصفير المشكلات، أي إزالتها ومحوها (وجعلها صفراً)، فهذا من المثالية في الصميم، وليس من الواقعية في شيء. كذلك القول بأن السبيل الأمثل للتعامل مع الأزمة السورية هو تبنّي المجتمع الدولي موقفاً موحداً، فهذا ضربٌ من الخيال المجنَّح؛ لأن هذا «الموقف الموحد» لا سبيل إليه في ضوء الواقع العالمي الذي يعرف قدراً متزايداً من التوتر والانقسام، لا بسبب الأزمة السورية فحسب، وإنما بسبب «التصارع وتصفية الحساب» بين القطبين الدوليين، كما لا يخفى. الواقع أن التردد وعدم الحسم اللذين يطبعان الموقف التركي من الأزمة السورية، مما هو ملاحظ ومكشوف بالوضوح الكامل، مردهما – في رأيي - إلى هذا التعارض بين الفكر السياسي الاستراتيجي الذي يمثله مهندس السياسة الخارجية التركية، وبين الممارسة السياسية على الأرض، أي التضارب بين المثالية السياسية وبين الواقعية السياسية. الموقف الواقعي والحازم الذي يمكن أن يمنع النظام السوري من الاستمرار في قتل المواطنين وخطفهم وتعذيبهم ويعجل في إنهاء معاناة الشعب السوري، لا يمكن أن يكون غير التدخل المباشر وتسليح المعارضة، سواء أكانت من عناصر الجيش الحر أم من العناصر المدنية التي تخرج الى الشوارع والميادين تطالب بالحرية والكرامة وبإسقاط النظام القمعي الدموي. والتدخل المباشر له أكثر من صيغة، وليس بالضرورة أن يكون تحت مظلة مجلس الأمن، ما دامت روسيا والصين تمعنان في حماية النظام السوري القمعي والحيلولة دون إدانته دولياً بقرار حاسم من مجلس الأمن، وما دامت إيران وحلفاؤها يمدون النظام بكل أشكال الدعم. لقد قطع الاتحاد الأوروبي خطوات في هذا الاتجاه حين اعترف بالمجلس الوطني ممثلاً للشعب السوري، وإن لم يكن «ممثلاً وحيداً». فهذا لا يهمّ. وشرعت بعض الدول الأوروبية تسحب سفراءها من دمشق. وهذا موقف سيكون له ما بعده، وهو يعزز قرار المقاطعة الاقتصادية الأوروبية لسورية. كما أن الموقف الأميركي، وإن كان يراعي مصالح إسرائيل ويقدّمها على كلّ شيء، فإنه يقف مع ممارسة الضغط على النظام السوري من خلال فرض الحصار الاقتصادي عليه. ويبدو أن ثمة اتصالات بين واشنطن وموسكو في هذا الخصوص، ينتظر أن ينتج منها تشديد الحصار على النظام السوري. أما موقف جامعة الدول العربية، فهو يطرح علامات استفهام كثيرة. وهو حتى الآن موقف مبهم يتسم بالغموض وغير حازم، باستثناء الموقف الذي اتخذته دول الخليج التي بادرت إلى سحب سفرائها من دمشق، وأعلنت دولتان منها عن اعتزامهما تسليح المعارضة. وفي كل الأحوال، فإن تركيا هي الدولة المحورية في الإقليم، فهي التي تملك أوراقاً كثيرة يمكن أن تلعب بها دوراً بالغ التأثير في اتجاه إنهاء معاناة الشعب السوري. ولكن الملاحظ اليوم أن الدور التركي لم يتبلور على الأرض بما فيه الكفاية، وهو لم يزد على استقبال المجلس الوطني السوري وعناصر من الجيش الحر، وإقامة مخيمات على الحدود التركية - السورية للاجئين الذين يقارب عددهم العشرين ألفاً، ويتوقع أن يزيد هذا العدد في الأيام القليلة المقبلة، نتيجة تفاقم الأحداث الرهيبة التي يتورط بها الجيش السوري والأجهزة الأمنية السورية ومن معها من قوى طائفية إقليمية وعربية ضد المواطنين السوريين العزّل. في حين أن المجتمع الدولي ينتظر من تركيا أن تتخذ قرارات حاسمة وسريعة، وألا تكتفي بالتصريحات والوعود بينما إيران و «حزب الله» وبعض القوى العراقية تعلن صراحة وقوفها مع النظام الطائفي في سورية بالمال والرجال والسلاح. * أكاديمي سعودي