عام مضى ولا تزال الأحداث الأليمة في سورية تثير الاهتمام على رغم غموض الرؤية وانعدام أي معطيات على أرض الواقع تساعد على معرفة حقيقة ما يحصل، منذ أن انطلقت في دمشق العاصمة في 17 شباط (فبراير) العام الماضي، مسيرة شعبية هي الأولى من نوعها، كونها لم تكن لتمجيد القائد وتخليده أو الهتاف لإنجازات الحزب القائد للأمة والمجتمع أو العويل ضد الصهيونية والإمبريالية الأميركية عدوة الشعوب العربية قاطبة، بل كانت مسيرة متواضعة هتف فيها المشاركون للمرة الأولى: «الشعب السوري ما بينذل»، أو بتعبير آخر: «كفانا ذلاً ومهانة»، في رد فعل عفوي على حادثة فردية عانى السوريون من مثيلاتها آلاف وآلاف المرات طيلة نصف قرن من البطش والوحشية. مع دخولها عامها الثاني، يتأكد أن الأزمة السورية ليست مجرد حلقة في سلسلة «الربيع العربي» للمطالب الشعبية بالحريات والديموقراطية والقضاء على الفساد، ولا هي وعود حكومية «غير صادقة» بالإصلاحات والتغيير. وإن تميزت الأحداث منذ بداياتها بتمادي النظام الحاكم باستخدامه المفرط للقوة، وهذا لم يكن مستغرباً، إنما توافر الكميات الهائلة من السلاح المتطور والثقيل بين أيدي مناهضي الحكم هو الأمر الذي بدا أكثر غرابة. من هنا نافل القول إن الأزمة السورية، التي رفضت أن تكون نسخة مكررة عن مثيلاتها في تونس ومصر وليبيا، تتطلب لفهمها تقويماً أكثر شمولاً يأخذ في الاعتبار أبعاداً تاريخية، دولية، إقليمية ومحلية. من المنظور التاريخي نلحظ التركيبة الفسيفسائية الخاصة بمكونات المجتمع السوري، فهي أقليات أثنية، عرقية ودينية تعايشت وتناغمت طويلاً بالرغم من الخصائص الدقيقة التي ميزت كل منها، وفرقتها عن الأغلبية المهيمنة من المسلمين السنة الذين انفردوا بحكم المنطقة لقرون طويلة. توضحت معالم هذه التركيبة المعقدة والمتشعبة وترسخت بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ووقوع سورية الجغرافية الكبرى تحت انتداب فرنسي وبريطاني كان قد خرج لتوه منتصراً من الحرب العالمية الأولى، في الربع الأول من القرن الماضي. ولسورية خصوصية تاريخية أكثر دقة، كرسها الانتداب الفرنسي، تمثلت بالصراع التقليدي بين الغالبية السنية المسلمة المسيطرة على مقدرات البلاد سياسياً واقتصادياً والمتمثلة بطبقة الإقطاع، وأبناء الطائفة العلوية، المسحوقة اجتماعياً واقتصادياً في تلك الفترة، الذين يقطنون المناطق الساحلية والمتاخمة للحدود مع لواء الإسكندرون الذي سلخته فرنسا المنتدبة وقدمته لتركيا تعويضاً لهزيمتها في الحرب. هذا الصراع الذي جسدته خلافات دينية تلازمت مع مستوى معيشي متدن اشتكى منه العلويون، تلخصه العريضة التي قدمها بعض أعيان تلك الطائفة آنذاك، لسلطات الانتداب الفرنسي يعربون فيها عن أملهم بالحصول على وطن مستقل عن سورية السنية (وهو ما أقدمت عليه فعلياً فرنسا في بداية انتدابها بتقسيم سورية إلى 4 دويلات منها الدولة العلوية). إلا أن هذا المطلب لم يرَ النور على رغم من إقدام سلطات الانتداب على تقطيع أوصال كيان سورية وخلق النزاعات الطائفية بما فرضته من أحكام ميزت فيها بين الطوائف، مانحة مزايا للأقليات الدينية على حساب الطائفة السنية ذات الغالبية السكانية. هذا الأمر شرع الأبواب لانخراط أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة من المجتمع السوري في مجالي القوات المسلحة وحزب البعث، ما زاد تعميق الفجوة بين طبقات المجتمع الواحد وساهم في تصنيف أبنائه على أساس انتمائهم الطائفي والطبقي (دروز، أكراد، علويون، مسيحيون، شركس الخ...) مركز جغرافي حساس من المنظور الجيوسياسي، نرى أن المركز الجغرافي الحساس لسورية، قد لعب بعد الحربين العالميتين دوراً بارزاً في استقطاب المطامع الغربية، ومطامع عدد من دول المنطقة مؤخراً. ساعد على ذلك، عدم الاستقرار الذي شهدته المنطقة لعقود طويلة. فسورية لم تشهد استقراراً نوعياً ونسبياً إلا في فترة حكم حافظ الأسد التي تميزت بالاستبداد والبطش وقمع الحريات وسلب الحقوق، ذلك نظراً للقدرة التي تميز بها هذا الرجل في محاكاة مختلف المصالح المتضاربة وممارسة لعبة التجاذبات وشد الحبال واستغلاله الفرص والنوافذ المفتوحة. يمكن اختصار المشهد الجيوسياسي الذي اتسمت به سورية بتحالفات الحرب الباردة وحماية أمن إسرائيل والمصالح الاقتصادية الغربية في المنطقة والصراع التقليدي بين السنة والشيعة الذي عززه نشوء الجمهورية الإسلامية الإيرانية. أما تركيا فحرصت على علاقات جيدة مع سورية لطي ملفي لواء إسكندرون وكيليكيا، وربما لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وحرصت بدورها إسرائيل على ديمومة الهدوء على حدودها الشمالية، ولبنان مضطر لأن يرى ممراً سالكاً في شرقه وشماله، والعراق يرغب في كسب ود جار طالما جلب له المشاكل وعدم الاستقرار. وحديثاً تسعى قطر لتسويق غازها الطبيعي إلى أوروبا والعالم من طريق مد أنابيب إلى شواطئ البحر المتوسط مروراً بسورية وتركيا، وروسيا يحلم رئيسها بوتين باستعادة المكانة المتقدمة التي حظي بها الاتحاد السوفياتي السابق كمورد رئيس للسلاح إلى سورية التي كانت حليفه الأبرز في المنطقة، حيث تمتع الخبراء العسكريون الروس بحظوة خاصة بهم لتدريب العسكريين السوريين، ساهمت في منحهم ميزات كبيرة في مجال التجسس وجني المعلومات طيلة الحرب الباردة، التي تراود أسياد الكرملين اليوم أحلام استعادتها. واللائحة لا تنتهي في تعداد المواقف الداعمة للمكانة المتفوقة استراتيجياً لسورية. الأزمة أكثر اتساعاً بالنسبة إلى المشهد المحلي تميز العام المنصرم بالتحول الكبير في مجرى الأحداث، من تظاهرات سلمية وهتافات عفوية مطالبة بالحرية ورفع الظلم، على طريقة تونس ومصر، إلى شبه حرب ومواجهات مسلحة عنيفة، ما نقل الأزمة السورية من مجرد حلقة في مسلسل الربيع العربي إلى ما يشبه الحرب الإستراتيجية الشاملة التي تبدو للوهلة الأولى بداية لحرب أهلية محلية، إلا أنها تحمل في طياتها عمقاً استراتيجياً يوحي بقرب اندلاع أزمة إقليمية ذات أبعاد عالمية، كي لا نقول حرباً إقليمية على الأرض السورية. ومع هذا التحول الذي ظهر إلى العلن في مطلع الخريف المنصرم، باستخدام مندوبي روسيا والصين في مجلس الأمن حقهما بالنقض مرتين لإيقاف أي قرار يدين النظام السوري أو يمهد لبحث إمكانية التدخل العسكري، ابتعد الحديث عن إصلاحات ملحة ووطن ينهار ببطء وأناس أبرياء يموتون كل يوم وقتلى تتزايد أعدادهم لتبلغ عشرات الآلاف من كل الأطراف والانتماءات والأديان، وتحول الحديث إلى مخططات ومؤامرات ومشاريع قرارات ومحاولات تدخل وتنافس في تقديم المشورة واقتراح التسوية. مع هذا كله، ضاع صوت أصحاب الشأن المباشر وذهبت مطالبهم بالإصلاح والحرية والديموقراطية أدراج رياح القتل والقصف والتدمير. لقد غاب أصحاب ثورة الكرامة الحقيقية عن واجهة الأحداث تماماً وضاعت آثار دعوات ومجالس الحوار ومؤتمراته. وفقدت التكتلات والتحالفات والمؤتمرات التي انطلقت مع بداية الاحتجاجات الشعبية العارمة أي مكانة لها أو تأثير يرجى منها، كما ضاعت جدوى المعارضة السلمية في الداخل كما في الخارج بسبب تشرذمها وتنافسها ومهاتراتها، ودفاعها المستميت عن شخصنة الثورة واختزالها في رموز ووجوه وشخصيات. أما حقيقة الوضع المتأزم في سورية اليوم، بناء على هذا الاستعراض لرؤية ما جرى ويجرى هناك من زوايا مختلفة، فيمكن تلخيصها في عنوان عريض واحد، تماماً كما عبر سابقاً عما جرى في العراق خلال الأعوام العشرة الماضية وما جرى في لبنان طيلة خمسة عشر عاماً من الاقتتال الأهلي. انه «صراع بالوكالة»، أو صراع مصالح الغير على الأرض السورية، التي يبدو أن النظام الحاكم في دمشق اختار أن يكون طرفاً فيه وجزءاً رئيساً منه. وكلما طال أمد الأزمة، يتزايد أطراف هذا الصراع الرئيسيون والثانويون، الذين باتوا معروفين تماماً. فمن إيران وحليفها حزب الله في لبنان، إلى دول الجوار الرئيسة، لا سيما العراق وتركيا، إلى روسيا وريثة «الأمجاد السوفياتية والحرب العالمية الباردة» وقيصرها الجديد بوتين، وفرنسا راعية الانتداب الاستعماري الشهير، وصولاً إلى الصين في أقصى شرق الكرة الأرضية والولايات المتحدة في أقصاها الغربي، تتصارع قوى إقليمية وعظمى على تقاسم ارث هش، نتيجة عجز السلطة الحاكمة عن تدارك الأحداث وفرض تسوية سلمية عاجلة، لافتقارها إلى الحكمة والرؤية الصائبة التي تمكنها من إنقاذ هذا الوطن الذي يعيش مأساة إنسانية بكل أبعادها، كي لا نقول نتيجة تعطش هذه السلطة للانتقام والاستماتة في سبيل التمسك بالحكم ومكاسبه، والمحافظة على ما غنمه أهل الحكم طيلة عقود من الظلم والقهر والتنكيل والتعذيب والسلب والسرقة وانتهاك الحرمات والأعراض. * أكاديمي سوري مقيم في كندا