لم تفاجئني انتفاضة شعب تشنغيانغ في شمال غرب الصين ولا الصدامات التي وقعت بين عنصري السكان، بل لعلها تأخرت أو تأخر الإعلان عنها.. أذكر أن الأوضاع في هذا الاقليم ذي الغالبية المسلمة كانت دائماً محط اهتمام السلك الديبلوماسي المعتمد لدى حكومة الرئيس ماو تسي تونغ في أواسط القرن الماضي. كانت أخبار الإقليم تصل إلينا في العاصمة بكين متناثرة وفي الغالب نادرة في وقت كان التعتيم الإعلامي ممارسة عادية من ممارسات النظام الشيوعي - الماوي الحاكم. لم يكن قادة النظام يفرّقون بين أتباع دين أو عرق أو طائفة وبين الغالبية التي يتشكل منها شعب الصين. وكان كلما نزل أرض الصين رئيس دولة إسلامية وطلب، عن غير علم أو من دون مراعاة أصول المراسم والديبلوماسية، زيارة إقليم تشنغيانغ يقال له: لقد وضعنا في برنامج رحلتكم زيارة لأهم مساجد بكين، وسيؤمكم في الصلاة إمام من مسلمي تشنغيانغ. تعرفنا على المسلم الصيني ولم يكن يختلف كثيراً في الشكل عن غير المسلم إلا بقلنسوته الشهيرة. فالجميع ابتداء بالرئيس ماو وانتهاء بفلاح التعاونية الزراعية يرتدون البذلات الزرقاء. وكان المهاجرون من إقليم تشنغيانغ أكثرية في أسواق التحف وبيع الملابس في العاصمة الصينية. لم يكن ممكناً في ذلك الوقت، ولا جائزاً أن تسأل أحد هؤلاء عن طبيعة الحياة في تشنغيانغ، أو عن حقيقة ما يشاع في الصحف الغربية عن وجود قمع او اضهاد أو تمييز ضد السكان، أو عن حرية ممارسة الشعائر وحق التنقل بحرية بين المقاطعة الإيغورية وغيرها من مقاطعات الصين. كنا نعرف من حكايات التاريخ أن أهل الإقليم عانوا كثيراً من ظلم أباطرة الصين، فالاقليم، إلى جانب أن سكانه ينتمون عرقياً ودينياً وفي التقاليد والملبس إلى شعوب هي أقرب إليهم جغرافياً في وسط آسيا وبخاصة الشعوب التركمانية، فهو أيضاً الممر الطبيعي والمنطقي لكل الغزاة عبر التاريخ، باستثناء الغزاة اليابانيين، وهؤلاء قدموا من الشرق في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وبين الحين والآخر على امتداد الحكم الماوي، وحكم دينج هسياو بنغ من بعده وإلى يومنا هذا، حدثت مشاكل كثيرة في الاقليم عرف العالم الخارجي بعضها ولم يسمع عن أكثرها. كان التيبت هو الإقليم الذي حظي بالجانب الأكبر من اهتمام الغرب المخاصم للصين ثم الغرب المنافس للصين والمنبهر بانجازاتها. وكان لهذا الاهتمام الزائد مبرراته، فالأهمية الاستراتيجية للتيبت تكاد لا تتكرر في أي مكان آخر في العالم، ربما باستثناء الشرق الأوسط، فضلاً عن أن للتيبت وزناً روحياً ومكانة متميزة بين بلايين البشر في جنوب آسيا وشرقها. أما إقليم تشنغيانغ فلم تكن له مكانة مرموقة في الاهتمام الغربي إلا في سياق ما يسمى بعصر الصحوة الإسلامية، أي في العقود الأخيرة ابتداء من عقد الثمانينات. أقول لم تفاجئني التطورات الأخيرة في شوارع عاصمة تشنغيانغ والعنف البادي الذي مورس ضد العناصر المسلمة في تلك الأحداث، بل أقول إنني توقعت وقوعها منذ سنين، أما الأسباب وراء توقعاتي المتصاعدة بأن يحتل الإقليم مكانة جديدة في الاهتمامات الإقليمية والدولية فكانت ثلاثة على الأقل: أولاً: كما قلت من قبل، أعرف أن التمرد قائم منذ قرون وكان قائماً في ظل أشد الأوقات صعوبة كالحال خلال حكم الرئيس ماو. وكان من الطبيعي أن تتوثق معلوماتنا نتيجة التقدم الهائل الذي حققته أدوات الاتصال ووسائلها، فالأحداث التي كان يجري التعتيم عليها وإخفاؤها عن العالم الخارجي أصبحنا نرى صوراً لها وأفلاماً في غرف نومنا من دون أن نبذل جهداً استخبارياً أو بحثياً مطولاً للاطلاع عليها. هكذا تابعنا ثورات الزهور في أوروبا الشرقية وامتدادتها في اقاليم أخرى متاخمة للاتحاد الروسي، وشاهدناها أخيراً في شوارع طهران. استجد أيضاً أن تشنغيانغ صارت تجاور حرباً ساخنة وشديدة العنف تجري في أفغانستان وتطورات أشد خطورة تجري في باكستان، وعلى مسافة غير بعيدة بتهيؤ إيران لتطور يتنبأون في الغرب بأنه سيكون، إن وقع، بالغ العنف وعميق الأثر، وقد يهدد، إن استفحلت آثاره، استقرار آسيا والشرق الأوسط لعقود عدة قادمة. بهذا المعنى، يقترب اقليم تشنغيانغ من منطقة شاسعة تمتد من شرق آسيا إلى أقصى غربها مروراً بوسطها، إسلامية الدين متطرفة المذاهب شديدة الغضب ومهددة من دول أجنبية وعقائد أخرى. يصعب علينا أن نتصور شعب تشنغيانغ وقياداته وبخاصة الدينية منها، غير متأثرة، وبعمق، بما حدث حوله. ثانياً: حدث في أقل من ثلاثين عاماً أن تغيرت طبيعة النظام الاقتصادي في الصين وأصبحت قوة اقتصادية عظمى. ولا شك أن هذه الطفرة الاقتصادية كانت لها تداعياتها في الجانب السياسي والاجتماعي. الظاهر من التقارير والاحصاءات أن تشنغيانغ لم تكن بين المقاطعات المحظوظة التي صدر القرار بأن تتولى قيادة الانطلاق الاقتصادي، وغالبها يقع في الجنوب الشرقي من البلاد، وبالتالي لم تحصل تشنغيانغ على نصيب مناسب من الرخاء والتوظيف والتغير الاجتماعي كبقية المقاطعات الشرقية رغم حيازتها لثروات كبيرة من المواد الخام والمعادن الثمينة. كذلك كانت تشنغيانغ من المقاطعات التي تضررت من تطبيق سياسة «لا مركزية» موازنة الدولة، فقد اعتمدت تشنغيانغ، بسبب صعوبات الاتصال والنقل، على وحدة الدولة ومركزيتها، وفي ظل هذه المركزية خلال العصر الماوي كانت تحظى بحقوق مناسبة في التعليم والمشروعات والتوظيف. وتضررت عندما فتحت حكومة الانفتاح الاقتصادي الأبواب أمام انتقال العمالة. حيث انتقل عدد كبير من سكان مقاطعات قريبة للعمل في الوظائف الحكومية في تشنغيانغ بالنظر إلى ندرة الخريجين الصالحين للعمل فيها من المسلمين من أهل المقاطعة. أدت هذه الهجرات، وكانت محدودة في السابق إلا في إطار عمليات متدرجة لزيادة نسبة غير المسلمين في المقاطعة، إلى تفاقم التوتر العرقي بين المتحدرين من شعب الهان والمتحدرين من أصول إيغورية تركمانية. ثالثاً: واجه حكام الصين في السنوات الأخيرة مشاكل اجتماعية ناتجة عن الاندماج في السوق العالمية. ويبدو أنهم قرروا الاستعانة بعدد من الأساليب «المتطرفة» أحياناً لضبط تأثيرات العولمة والإقلال من سلبياتها. قاموا مثلاً بتشجيع المشاعر القومية ضد اليابان حيناً والغرب في أحيان أخرى، وقاموا أيضاً باستخدام قوى الأمن الداخلي والرقابة على الاتصالات الفضائية والشبكات الإلكترونية والمسيطر عليها إلى حدود لعلها بين الأشد في العالم. من ناحية أخرى تدخلت الحكومة في مناهج التعليم لتعيد الملايين من تلامذة الصين إلى دراسة تعاليم كونفوشيوس وبخاصة تلك التي تصر على احترام أولي الأمر وكبار السن وتقدس تقاليد الأسرة والعمل الجماعي وتدين الفردية والأنانية. كان الغرض، وما زال، محاربة انفلات الأفراد وتفاعلهم المتزايد مع الممارسات الشائعة في الغرب التي حملتها رياح العولمة إلى الصين. قيل في هذا الصدد، إن تطبيق هذه المناهج في تشنغيانج أثار غضب الأهالي وغالبيتهم تريد أن يقتصر التلقين على المناهج التربوية الإسلامية. يحاول الإعلام الغربي استثمار الأزمة الحالية للإساءة إلى سمعة الصين في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ومع ذلك أتصور أن صانعي السياسة في أميركا وبعض دول الغرب سيبذلون أقصى ما في وسعهم لحث أجهزة الإعلام على التهدئة. حالة الصين تختلف عن حالة إيران، قد يكون المطلوب تحويل إيران إلى عدو من أجل ضربها، ولا أظن أن شيئاً مماثلاً مطلوب بالنسبة إلى الصين، فالغرب، وبخاصة أميركا، ما زال يدير علاقاته مع الصين، بهدف أن يجعلها دولة صديقة، على عكس أسلوب إدارة علاقاته بإيران. * كاتب مصري