من خلال المنتديات الاقتصادية الأخيرة بين رجال أعمال سوريين وآخرين أجانب التي افتتحها الرئيس بشار الأسد مع نظرائه من القادة، يبدو بوضوح أن هناك «رؤية استراتيجية» مفتاحها تحويل سورية إلى «عقدة ربط» في مجالات الغاز والنفط والنقل بأنواعه بين الشرق والغرب وبين الجنوب والشمال. بمعنى آخر، تسعى سورية إلى «تموضع استراتيجي» لتكون ممراً ومعبراً بين البحورالأربعة: الخليج العربي، الأبيض المتوسط، قزوين، والأسود، إضافة إلى البحر الأحمر وربما يكون السر في ذلك، هو اتباع دمشق سياسة حكيمة بالتوازن بين فرقاء إقليميين. فالرئيس الأسد زار النمسا وسلوفاكيا، كما إنه استقبل في دمشق الرئيسين اليوناني كارلوس بابولياس والتركي عبدالله غل اللذين يحملان موقفين مختلفين إزاء قبرص. وأعلن الأسد بعد لقائه بابولياس في دمشق أن المحادثات تناولت «القضية القبرصية وأعربنا عن اهتمامنا البالغ بإيجاد حل لهذه المشكلة دعماً للجهود المبذولة للتوصل إلى حل يؤمن حقوق جميع الأطراف». وبعد أسابيع على زيارته ارمينيا، أجرى الرئيس السوري محادثات في باكو مع الرئيس الأذري إلهام علييف الذي يحمل بدوره وجهة نظر مختلفة عن الرئيس الأرمني سيرج سركسيان إزاء مسألة إقليم ناغورنو كاراباخ. وشدد الأسد في باكو على ضرورة حل القضية ب «الحوار على أساس تطبيق قرارات الشرعية الدولية وبما يضمن حقوق جميع الأطراف»، معرباً عن استعداد سورية ل «تقديم أي مساعدة تسهم في حل هذه المسألة انطلاقاً من علاقتها الجيدة مع الطرفين». لكن الجديد الذي قدمته «الزيارة التاريخية» للرئيس الأسد إلى باكو أن الرؤية الاستراتيجية انتقلت سريعاً من الفكر إلى التطبيق، وما على المؤسسات التنفيذية الحكومية ورجال الأعمال إلا مواكبة الخطوات التي وضعتها الزيارات الرئاسية الأخيرة إلى عواصمإقليمية ودولية والولوج من الأبواب التي شرعتها المؤسسات الرسمية التي تبدي استعدادها لمعالجة العقبات التي تعترض السير قدماً إلى المستقبل بدلاً من انتظاره. يعود الطرح السوري إلى بداية عام 2004، عندما افتتح الرئيس الأسد منتدى اقتصادياً سورياً - تركياً في استنبول، ذلك في أول زيارة يقوم بها رئيس سوري إلى تركيا خلال ستة عقود على الاستقلال. قال الأسد وقتذاك إن سورية «تقوم بعملية تطوير للبنية التحتية، وهي بلد واعد اقتصادياً»، وبالتالي فإن اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين «ستفتح الباب واسعاً أمام تطوير العلاقات»، على أمل أن تصبح سورية «عقدة الربط» بين الشرق والغرب وبين تركيا والعالم العربي، خصوصاً في مجالي الغاز والطاقة. لا شك في أن الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 والفوضى الأمنية فيه والتوترات الأخرى في الشرق الأوسط وحربي تموز 2006 وغزة 2009 ومحاولات إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش فرض عزلة على دمشق، غيرت من الأولويات السورية. كانت الأولوية للاستقرار الأمني والسياسي. لكن الانفتاح السوري-التركي استمر وتحولت الوعود التي أطلقت في زيارة الأسد بداية 2004 إلى واقع. أنجزت اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين. وارتفع التبادل التجاري من 800 مليون دولار أميركي إلى بليوني دولار. الآن، انتهت مساعي العزل إلىالفشل. وجاءت إدارة أميركية جديدة تؤمن بالحوار مع سورية. وزار دمشق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي نهاية العام الماضي. كما إن الأسد شارك في قمة «عملية برشلونة: الاتحاد من أجل المتوسط». وتطورت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين سورية والعراق. وراح معظم القادة الأوروبيين والأميركيين يقولون إن دور سورية «محوري» وإنها «مفتاح» السلام الشامل في الشرق الأوسط وإنه لايمكن تجاوز موقعها الأستراتيجي ولادورها في المنطقة. عادت «الرؤية الأستراتيجية» السورية إلى الحضور بقوة. لقد طرحت أولا خلال زيارة الرئيس الأسد إلى فيينا في أيار (مايو) الماضي، إذ قال إن النمسا «تقع في قلب أوربا تاريخياً وجغرافياً كموقع سورية في العالم العربي والذي يجعلها (سورية) منفذاً لدول الاتحاد الأوربي باتجاه أسواق البلدان العربية وبلدان غرب آسيا ومركزاً لإقامة استثمارات مشتركة في مجالات الطاقة والصناعة والتعدين والزراعة والمعلوماتية والاتصالات والمصارف والتمويل»، إضافة إلى جعل سورية «ممراً لعبور مصادر النفط والغاز من المنطقة العربية وآسيا إلى الأسواق الأوروبية عبر المتوسط وتركيا ونقطة التقاء لشبكات الربط الكهربائي بين هاتين المنطقتين في العالم من خلال موقعها الأساسي في مشروع الربط الكهربائي للمشرق العربي الذي يصل الشبكة الكهربائية العربية بتركيا وعبرها إلى أوروبا». وجرى التركيز أيضاً على ذلك خلال زيارة الرئيس غل إلى دمشق في منتصف أيار، إذ قال الرئيس السوري في مؤتمر مشترك لرجال الأعمال: «عندما نفكر لاحقاً بأن هذا الفضاء الاقتصادي سيتكامل فنحن نربط بين البحر المتوسط وما بين بحر قزوين والبحر الأسود والخليج العربي» ، مضيفاً: «نستطيع أن نتكامل في هذا المجال عندما نربط هذه البحور الأربعة ونصبح العقدة الإجبارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وغيره». وأعيد التأكيد على هذه الفكرة خلال المحادثات في أرمينيا. وبين هذه الزيارات والخطوات السياسية، اتخذت خطوة عملية في هذا السياق. إذ تم تشغيل خط لنقل البضائع عبر سكك الحديد بين ميناء أم القصر العراقي على الخليج العربي إلى ميناء اللاذقية السوري على البحر الأبيض المتوسط، ذلك بعد زيارة رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري ووزير الخارجية وليد المعلم والحديث عن «اتفاق استراتيجي» في جميع المجالات. كما جرى الحديث عن إعادة تشغيل أنبوب النفط بين كركوك وبانياس بطاقة 200 ألف برميل يومياً وإقامة أنبوب جديد بطاقة تصل إلى 1.4 مليون برميل يومياً. وكان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بحث مع رئيس اتحاد منتجي النفط والغاز في روسيا يوري شافرانيك في موضوع أنبوب النفط السوري-العراقي. وجرى تكليف شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية بإجراء دراسة للأنبوب القائم. كما إن وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري قال ل «الحياة: في دمشق إن بلاده طلبت من هذه الشركة درس الجدوى الاقتصادية ووضعية الأنبوب القديم: هل هو صالح أم يحتاج إلى تصليح أم بناء خط آخر في الوقت ذاته؟ وقال إن هذا المشروع استراتيجي ستستفيد منه الدول العربية. وتحدث زيباري أيضاً عن «مشروع كبير» يتمثل بربط حقل الغاز في عكاس الذي تبلغ طاقته 500 مليون قدم مكعب بالشبكة السورية. وفي هذا السياق، أضيف عنصر جديد. إذ إن المسؤولين اليونانيين أرادوا أن يكونوا جزءاً من هذا التصور. وبدا ذلك واضحاً خلال زيارة الرئيس بابولياس وحضور المنتدى الاقتصادي في الشهر الماضي. إذ قال ل»الحياة» نائب وزير الخارجية تيدور ماكسيميس إن بلاده ترى أن سورية «قادرة على لعب دور نقطة التوزيع والوصل للبضاعة والتجارة بين المتوسط والخليج والدول المجاورة»، لافتاً إلى أن اليونان «هيأت بنية تحتية ضخمة» بحيث تكون قادرة على أن تكون حلقة ربط مع البحر الأسود والأدرياتيكي ودول البلقان حيث تعمل أربعة الآف شركة يونانية وروسيا ما يؤهلها لتصبح «بوابة سورية» إلى تلك المنطقة. ولدى الانتقال إلى أول زيارة يقوم بها الأسد إلى باكو منذ استقلال أذربيجان في عام 1991، خطت الرؤية الاستراتيجية خطوة كبيرة من التفكير والتخطيط إلى التنفيذ. ولم يكتف، في أن خرج الرئيس علييف عن التقليد الأذري عبر حضوره لأول مرة منتدى للقطاع الخاص بهدف التعبير عن «الإارادة السياسية» لتطوير التعاون، بل إن الجانبين اتخذا خطوات عملية في هذا السياق. أولى هذه الخطوات، أن البلدين وقعا نحو 19 اتفاقاً ومذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والتجارية. وثانيها، أن البلدين اتفقا على تصدير نحو بليون متر مكعب من الغاز من بحر قزوين إلى سورية عبر تركيا التي باتت بمثابة «جسر» بين البلدين باعتبار أن الجانب السوري يعتبرها «شقيقا» والجانب الأذري يرى أن بلاده وتركيا فيها «شعب واحد في بلدين». ويقول ل «الحياة: نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري إن الغاز سيصدر عبر الأراضي التركية ذلك أنه اتفق مع الجانب التركي على ربط شبكة الغاز التركية بالسورية بين موقعي كلس وحلب، التي تربط بدورها ب «خط الغاز العربي» القادم من مصر. استراتيجياً، إذن يجري الحديث عن مشروع طموح. إذ علم أن البحث جار لوصل مشروع الغاز العربي القادم مصر إلى الأردن إلى مدينة حمص وسط سورية ب «خط نابكو» الذي يمتد من أذربيجان إلى جورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا والنمسا بطاقة تصل إلى نحو 31 بليون متر مكعب سنوياً وبكلفة تصل إلى نحو عشرة بلايين دولار أميركي، علماً أن إنتاج سورية من الغاز يبلغ 23 مليون متر مكعب سنوياً وسيصل إلى 35 مليوناً في العام المقبل. وعلم أن وزير النفط السوري سفيان علاو سيشارك في المؤتمر الوزاري الخاص بأنبوب «نابكو» المقرر عقده في أنقرة في 13 الجاري. وكان زيباري قال إن الاتحاد الأوروبي موّل دراسة بكلفة 50 مليون يورو لإعداد دراسة حول كيفية الاستفادة والاستثمار في حقل «عكاس» وهو مهم لأوروبا في الخط العربي للغاز. يشار إلى أن موسكو تعتقد أن مشروع «نابكو» يرمي إلى التخفيف من الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي. كما إن روسيا بصدد إقامة مشاريع جديدة للغاز بين البحر الأسود وبلغاريا بحيث يتفرع منها إلى فرعين ليمر في صربيا والمجر واليونان وسلوفينيا وينتهي في النمسا وإيطاليا. وتقدر كلفته بأكثر من ثمانية بلايين يورو، ذلك ليكون موازياً أو منافساً ل»نابكو». ويعتقد الجانب السوري أن مشاريع أخرى ستؤسس بالتوازي مع خطوط الغاز خصوصاً ما يتعلق بالنقل بين الدول المعنية. إذ أكد الرئيس الأسد أمام رجال الأعمال السوري والأذريين على ضرورة «الربط الفيزيائي بين البنية التحتية لدول المنطقة بما يشكل شبكة متكاملة من أنابيب الغاز والسكك الحديدية والطرق والمرافئ التي تربط بين البحار الأبيض المتوسط والأسود وقزوين والخليج وحتى البحر الأحمر»، مضيفاً أنه «بناء على هذا الربط الفيزيائي والعلاقات المميزة بين سورية وكل من تركيا وأذربيجان وإيران والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي، فإن الاتفاقيات الثنائية والمتعددة بتبادل السلع والخدمات وخصوصاً الطاقة أصبحت ممكنة». عليه، بالإمكان الانطلاق من البنية التحتية التي أسست بين سورية وكل من هذه الدول عبر توقيع اتفاقات ثنائية، إلى «بنية تحتية إقليمية» ما يسمح بتعزيز موقع كل طرف وتبادل الاستثمارات في البنى التحتية للآخر. فسورية، مثلاً تنوي استثمار 50 بليون دولارأميركي لتطوير بنيتها التحتية حتى عام 2015. كما إن إجمالي الاستثمارات المطلوبة تبلغ 132 بليون دولار (بينها 77 بليوناً من القطاع الخاص) لتحقيق معدل نمو قدره 8 في المئة وفق الخطط الحكومية الحالية. في المقابل، تبلغ قيمة الناتج القومي لأذربيجان 74 بليون دولار أميركي لنحو ثمانية ملايين أذري. وهي تملك احتياطياً كبيراً من النفط والغاز، ذلك أنها بعد نيل الاستقلال وقعت شركة النفط الحكومية في 1994 اتفاقاً مع 13 شركة دولية وأميركية بينها أرامكو وأكسون كي تنقب أكثر في الآبار النفطية في قزوين، أعمق مما كانت وصلت إليه الشركات السوفيتية. وفي 2006، بدأ تشغيل أنبوب نفط من هذه الآبار في باكو إلى تبليسي (العاصمة الجورجية) إلى ميناء جيهان التركي، بطاقة تصل إلى 50 بليون طن من النفط الخام سنوياً. كما جرى مد أنبوب آخر للغاز مواز له بطاقة تصل إلى 296 بليون متر مكعب سنوياً ليصل إلى السوق الأوروبية. وبحسب المصدر الأذري، ساهم تشغيل أنبوبي النفط والغاز إلى تحقيق معدل نمو قدره 31 في المئة في عام 2006 ورفع حصة النفط من العائدات إلى 59 في المئة من الواردات الإجمالية. كما أسس الرئيس الراحل حيدر علييف «صندوق النفط الحكومي» لدعم الاستثمارات في القطاعات الأخرى، ووصلت موازنته إلى بليوني دولار. ويتوقع أن تصل في عهد الرئيس الحالي الهام علييف إلى 36 بليوناً في العام المقبل، تصرف في استثمارات على التعليم والاقتصاد والبنية التحتية. هذا أحد الأدلة الملموسة على إمكانات التكامل بين الدول الواقعة بين البحور الأربعة. وكان الأسد قال في باكو: «عندما نتطور بشكل إفرادي فستكون هناك مشكلة لأننا سنكون محل أطماع وعندما لا نتطور فستكون أيضاً هناك مشكلة لأن عدم التطوير يعني عدم الاستقرار، لكن عندما نتطور كلنا كدول وفي نفس الوقت مع بعضنا من خلال مصالح مشتركة فسنكون أقوياء».